هذا التعليق للترجمة ظاهرة، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
(وأَمَرَ) بفتحات (عمر) : هو ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه؛ أي: في زمن خلافته (ببناء المسجد)؛ أي: مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وقال)؛ أي: عمر للصانع الذي يبنيه: (أكِنَّ الناس من المطر) : قال إمام الشَّارحين: فيه أوجه:
الأول: (أَكِنَّ)؛ بفتح الهمزة، وكسر الكاف، وفتح النون، على صورة الأمر: من الإكنان، وهي رواية الأصيلي؛ يعني: اصنع لهم كنًّا يسترهم عن المطر والشمس، وهذه الرواية هي الأظهر، يدلُّ عليه أنَّه ذكر قبله قوله: (أمر عمر) وقوله بعده: (وإياك) وذلك؛ لأنَّه أولًا أمَر بالبناء، وخاطب أحدًا بذلك، ثم حذَّره من التَّحمير والتصفير بقوله: «وإياك أن تحمِّر أو تصفِّر» والإكنان: من أكننت الشيء إذا صنته وسترته، وحكى أبو زيد والكسائي: كننته من الثلاثي؛ بمعنى أكننته، وقال ثعلب: (أكننت الشيء إذا أخفيته، وكننته: إذا سترته بشيء، ويقال: أكننت الشيء: سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي: أسررته)، وقال أبو عبيدة: (قالت تميم: كننت الجارية أكِنها كِنًّا -بكسر الكاف- وأكننت العلم والسر، وقالت قيس: كننت السر والعلم؛ بغير ألف، وأكننت الجارية؛ بالألف)، وقال ابن الإعرابي: (أكننت السر وكننت وجهي من الحر وكننت سيفي، قال: وقد يكون هذا بالألف أيضًا).
الوجه الثاني: (أُكِنُّ الناس) : بضمِّ الهمزة، وكسر الكاف، وتشديد النون المضمومة، بلفظ المتكلم من المضارع، قال ابن التين: (هكذا رويناه، وهي رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي)، وفي هذا الوجه التفات، وهو أنَّ عمر أخبر عن نفسه، ثم التفت إلى الصانع، فقال: (وإياك)، ويجوز أن يكون تجريدًا، فكأن عمر بعد أن أخبر عن نفسه جرَّد عنها شخصًا؛ ثم خاطبه بذلك.
الوجه الثالث: قاله القاضي عياض: (كِنَّ الناس) : بحذف الهمزة، وكسر الكاف، وتشديد النون من: كنَّ يكن وهو صيغة أمر، وأصله: (أكن)؛ بالهمزة، لكنها حذفت تخفيفًا على غير قياس، وهذه رواية غير أبي ذر، والأصيلي.
الوجه الرابع: (كُنَّ) بضمِّ الكاف: من (كنَّ) فهو مكنون وهذا له وجه، ولكن الرواية لا تساعده، انتهى كلام إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
قلت: وهذا الوجه الأخير ذكره أيضًا ابن مالك، ومعناه: صانه، لكن الرواية لا تساعده، كما قال؛ فافهم.
واعترض العجلوني الوجه الثاني؛ فقال: التجريد ذكره ابن حجر، وأما الالتفات؛ فليتأمل في صحته، انتهى.
قلت: واعتراضه مردود عليه؛ فإن ما ذكره ابن حجر من التجريد هو قد أخذه من كلام إمام الشَّارحين ونسبه لنفسه، فلله درُّ إمامنا الشَّارح ما أغزر علمه وفهمه! وقوله: (وأما الالتفات...) إلخ: ممنوع؛ لأنَّ معناه صحيح، كما لا يخفى على أهل التحقيق، ولا يلزم من عدم ذكر ابن حجر للالتفات ألا يكون صحيحًا؛ لأنَّ ابن حجر ليس عنده إحاطة بجميع المعاني، بل ما ذكره هو مَبْلَغه من العلم، على أنَّ وجه الالتفات ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، وليس للعجلوني كلام مع إمام الشَّارحين؛ فافهم.
(وإياك) تحذير للصانع (أن تُحَمِّر أو تُصَفِّر)؛ بضمِّ أولهما، وفتح ثانيهما، وتشديد الثالث مكسورًا، ومفعولهما محذوف؛ أي: (احذر من أن تحمِّر المسجد، أو تصفِّره)؛ فكلمة: (أن) مصدرية، ومراده: الزخرفة، وروى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعًا: «ما ساء عملُ قومٍ قط إلا زخرفوا مساجدهم»، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(فَتَفْتِن الناس)؛ بفتح المثناة الفوقية، وسكون الفاء من (فتن يفتن)، من باب ضرب يضرِب، فتنًا وفتونًا؛ إذا امتحنه.
وضبطه ابن التين؛ بضمِّ المثناة الفوقية من (أفتن)، والأصمعي أنكر هذا، وأبو عبيدة أجازه وقال: فتن وأفتن بمعنًى وهو قليل، والفتنة: اسم وهو في الأصل من الافتتان والاختبار، ثم كثر استعمالها؛ بمعنى: الإثم والكفر، والقتال، والإحراق، والإزالة، والصَّرف عن الشيء، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وقد تبع ابن التين الزركشي، فضبطه بضمِّ الفوقية.
وقال الكرماني: وتفتن من «الفتنة»، وفي بعضها من «التفتين».
واعترضه إمام الشَّارحين فقال: إذا كان من (التفتين)؛ يكون من باب التفعيل، وماضيه فتَّن بتشديد التاء الفوقية، وعلى ضبط ابن التين يكون من باب الإفعال وهو: الإفتتان بكسر الهمزة، وعلى كل حال؛ فهو بفتح النون؛ لأنَّه معطوف على منصوب بكلمة (أن)، انتهى.
ومطابقته للترجمة ظاهرة، والمراد بالمسجد: مسجده عليه السَّلام، ويأتي في هذا الباب: أنه روي من حديث نافع إلى آخره ورواه أبو داود، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني أنَّ هذا الأثر المروي عن عمر طرفٌ من قصة في ذكر تجريده المسجد؛ فافهم.
وقال ابن بطال: (كأنَّ عمر فهم ذلك من الشَّارع؛ حيث ردَّ خميصة أبي جهم من أجل أعلامها، وقوله فيها: «إنها ألهتني عن صلاتي»، ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة؛ فقد روى ابن ماجه بسنده إلى عمر مرفوعًا: «ما ساء عمل قوم قطٌّ إلا زخرفوا مساجدهم»، ورجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المفلس، ففيه مقال) انتهى.
قلت: فعلى الأول: يكون عمر قاس أعلام الخميصة على زخرفة المساجد بجامع الإلهاء في كلٍّ عن الخشوع في الصلاة، وعلى الثاني: يكون الاستدلال من الحديث، لكن الاحتمال الأول أظهر؛ لأنَّ حديث أبي جهم مذكور في «الصحيحين»؛ فافهم. والله أعلم.
(وقال أنس) : هو ابن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (يَتباهَون)؛ بفتح أوله والهاء: من المباهاة، وهي المفاخرة؛ أي: يتفاخرون (بها)؛ أي: بالمساجد، والسياق يدلُّ عليه؛ يعني: أنَّهم يزخرفون المساجد ويزيِّنونها بأنواع البناء والزينة، ثم يتعدون فيها ويتمارون، (ثم لا يُعمِّرونها)؛ بضمِّ أوله، وتشديد الميم، ويجوز فتح أوله التحتية، وضم الميم، ويجوز كسرها: من التعمير، والضمير يرجع إلى المساجد؛ يعني: لا يشتغلون بما بنيت المساجد له من الصلاة، وتلاوة القرآن، والذكر، والتدريس، ونحوها (إلا قليلًا)؛ بالنصب على الاستثناء، ويجوز الرفع من جهة النحو على أنَّه بدل من ضمير الفاعل، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: ضمير الفاعل يرجع إلى الناس؛ كالضمير في (يتباهون) المدلول عليه، وضمير (بها) يرجع إلى المساجد، كما قدمنا؛ للقرينة الحالية والمقامية، وأفاد إمامنا الشَّارح أنَّ الرفع يجوز من جهة القواعد النحوية، ولكن الرواية لا تساعده؛ لأنَّها بالنصب؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق مرفوع في «صحيح ابن خزيمة» عن محمد: حدثنا سعيد عن أبي عامر قال: قال أبو قلابة: انطلقنا مع أنس نريد الزاوية-يعني: قصر أنس- فمررنا بمسجد، فحضرت صلاة الصبح، فقال أنس: لو صلينا في هذا المسجد، فقال بعض القوم: نأتي المسجد الآخر، فقال أنس: إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمِّرونها إلا قليلًا أو قال: يعمِّرونها قليلًا»، ورواه أبو يعلى الموصلي أيضًا في «مسنده»، وروى أبو داود في «سننه» عن أنس: