للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»، وأخرجه ابن ماجه، والنسائي أيضًا، وروى أبو نعيم في كتاب «المساجد» من حديث علي بن حرب عن سعد بن عامر عن الخزاز: «يتباهون بكثرة المساجد»، ومن حديث محمد بن مصعب القرقساني عن حماد: «يتباهى الناس ببناء المساجد») انتهى.

قلت: والحديث الأول أولى، وأنسب بمراد البخاري، وروى البغوي عن أنس بلفظ: «سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد، ولا يعمِّرونها إلا قليلًا».

قلت: وفي حديث أنس عَلَمٌ من أعلام نبوته؛ لإخباره عليه السَّلام بما سيقع في أمته، فوقع كما قال، والله أعلم، وفيه: أن نقش المسجد وتزيينه مكروه، وهو قول الإمام الأعظم رأس المجتهدين رضي الله عنه، وتمامه سيأتي، والله أعلم.

(وقال ابن عبَّاس) : هو عبد الله أحد العبادلة الأربعة، وحَبْرُ هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما: (لِتُزَخْرِفُنها)؛ باللام المكسورة أو المفتوحة، وضم الفوقية وفتح الزاي، وسكون المعجمة، وكسر الراء، وضم الفاء؛ لإسناده إلى واو الضمير المحذوفة؛ لالتقائها ساكنة مع نون التأكيد، والضمير المنصوب يعود على المساجد، والضمير المرفوع إلى المذكورين، وهو من التزخرُّف، وهو التزين، يقال: زخرف الرجل كلامه: إذا موَّهه وزيَّنه بالباطل، والزُّخرف: الذهب ونحوه.

وأما اللام فيه؛ فذكر الطيبي في «شرح المشكاة» فيه وجهين؛ الأول: أن تكون مكسورة، وهي لام التعليل؛ للنفي قبله والمعنى: ما أُمرت بتشييد المساجد لأجل زخرفتها، والتشييد: -من شيَّد (١) يشيِّد- رفع البناء والإحكام، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: ٧٨]، والوجه الثاني: فتح اللام على أنها جواب القسم، انتهى.

واعترضه ابن حجر فزعم أنَّ هذا الوجه الثاني هو المعتمد، والأول لم تثبت به الرواية أصلًا.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (الذي قاله الطيبي هو الذي يقتضيه الكلام ولا وجه لمنعه، ودعوى عدم ثبوت الرواية يحتاج إلى برهان) انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ ما قاله الطيبي محتمل إن جعله من كلام ابن عبَّاس تعليلًا للحديث قبله، وإن ادَّعى أنَّه من كلام النبيِّ عليه السَّلام؛ فلا وجه له، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه، ولا يذهب عليك أن كلام الطيبي مبني على كلام ابن عبَّاس؛ لأنَّه صرَّح بقوله؛ تعليلًا للنفي قبله، وليس الطيبي يدَّعي أنَّه من كلام النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، على أنه إذا كان من كلامه؛ فما المانع من عدم وجهه؟ لأنَّ كلام ابن عبَّاس وإن كان في الظاهر مفعولًا؛ إلا أنه متعلق بما قبله وعلى الانفعال يظهر المعنى أيضًا؛ فافهم، ولا تغترَّ بما زعمه العجلوني؛ لأنَّه مشهور بالتعصُّب، والمعنى ههنا: تمويه المساجد بالذهب، ونحوه.

(كما زخرفت)؛ أي: زينت (اليهود)؛ أي: كنائسهم (و) زخرفت (النصارى)؛ أي: بيعهم؛ فالمفعول في كلٍّ منهما محذوف للعلم به، قال الخطابي: (إنَّما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم وبيعهم حين حرَّفت الكتب وبدَّلتها؛ فضيَّعوا الدين وعرَّجوا على الزخارف والتزين) انتهى.

وقال البغوي: (إنَّهم زخرفوا المساجد عندما بدَّلوا دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم وسيصير أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتزبينها) انتهى.

قلت: وقول الخطابي والبغوي: (إنَّ التَّزخرف وقع حين تبديل الكتب والدين)؛ يحتاج إلى حجة وبرهان؛ لأنَّه لا يلزم من تبديل الكتب زخرفة معابدهم، وقول البغوي: (بالمساجد) : غير مناسب؛ لأنَّ المساجد للمسلمين، ولليهود الكنائس، وللنصارى البيع، فكان عليه أن يقول: زخرفوا معابدهم، كما لا يخفى.

وقال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق رواه أبو داود موصولًا عن ابن عبَّاس هكذا موقوفًا، وروى معه مرفوعًا من حديث الثوري عن يزيد بن الأصم عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما أُمرت بتشييد المساجد»، قال ابن عبَّاس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، وإنما اقتصر البخاري على الموقوف منه ولم يذكر المرفوع منه؛ للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله، وإرساله، ويزيد هذا روى له مسلم والأربعة) انتهى.

وزعم ابن حجر -بعد أن ذكر مثل هذا آخذًا من كلام إمام الشَّارحين- فزعم أن كلام ابن عبَّاس فيه مفصول من كلام النبيِّ عليه السَّلام في الكتب المشهورة، انتهى.

قلت: وهو ممنوع؛ فإن ظاهر اللفظ يدل على أنه موصول بكلام النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، كما صرح به أبو داود، كما قدمناه.

وقد روي الحديث من طريقين عن ابن عبَّاس موقوفًا ومرفوعًا، فالموقوف مفصول ظاهرًا، لكنه متعلق بما قبله، والمرفوع موصول، وقد خفي هذا على ابن حجر حتى زعم هذا الكلام.

وفي الحديث المرفوع وهذه الآثار المذكورة دليلٌ واضح لمذهب أئمتنا الأعلام حيث قالوا: إن نقش المسجد وتزيينه مكروه، ولا يجوز من مال الوقف، فإن فعل؛ يغرم الذي يخرجه سواء كان ناظرًا أو غيره، ووجه الكراهة إذا كان من مال الناظر شيئان؛ أحدهما: اشتغال المصلين بذلك، فيُخل بالخشوع، وربما يجرهم إلى فساد الصلاة، وثانيهما: إخراج المال في غير وجهه، فيكون تبذيرًا وإسرافًا وهو مكروه، وعند الشافعي كذلك، قال في «الروض» و «شرحه» : (ويُكره نقش المسجد واتخاذ الشرفات له؛ للأخبار الصحيحة في ذلك، فإن كان ذلك من ريع الوقف؛ فحرام) انتهى.

وقد خفي على ابن حجر الحكم عند الشافعي؛ فزعم في «المنحة» أنه لا بأس بنقش المسجد إذا كان المال من غير بيت المال على سبيل التعظيم، واعترضه العجلوني فقال: (هذا جارٍ على غير مذهبه) انتهى.

قلت: بل هو ليس جاريًا على مذهبه، ولا على مذهب غيره، بل هو قول بالرأي، ولعله جَنَح إلى قول بعض أئمتنا الأعلام: (لا بأس بنقش المسجد للتعظيم)، وهذا القول معناه: أن تركه أولى؛ كما صرَّح به الشراح، ومنهم إمام الشَّارحين؛ فابن حجر قد خفي عليه هذا المعنى، وخفى الصحيح في مذهب الإمام الأعظم، وخفي عليه أيضًا مذهب إمامه الشافعي، فلا تغترَّ بكلامه، وعرِّج عنه، وانظر الصحيح


(١) في الأصل: (شدَّ)، والمثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>