للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أي: يدعو على نفسه، كما صرح به النسائي؛ تعليل للرقاد أو للأمر به، والفاء في (فيسب) : عاطفة على (يستغفر)، فهو مرفوع، كهو على حذفها الموجود في بعض الأصول، قال ابن مالك: (جاء في «فيسب» الرفع، باعتبار عطف الفعل على الفعل، والنصب باعتبار أنه جواب لـ «لعلَّ»، فإنها مثل «ليت»)، وجملة (وهو ناعس) : حالية أو معترضة؛ كقوله: (وهو يصلي)، والفائدة في تغيير الأسلوب بين التركيبين حيث قال في الأول: (نعس) بالماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل، كما قال في «عمدة القاري» : (الدلالة على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وانقضاؤه في الحال، بل لا بدَّ من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول ويقرأ، والفرق بينهما كالفرق بين ضرب زيد قائمًا وقام ضاربًا، وهو احتمال القيام بدون الضرب في الأول، والعكس في الثاني، وإنما اختار ما اختار في كل منهما؛ لأنَّ الحال قيد وفضلة، والأصل في الكلام ما له القيد، ففي الأول: لا شك أن النعاس هو علة الأمر بالرقاد لا الصلاة، فهو المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني: الصلاة علة للاستغفار؛ لأنَّ تقدير الكلام: فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس؛ يستغفر، فلفظ (لعلَّه يستغفر) : خبر (إنَّ)، ولفظ: (لا يدري) وقع موقع جزاء (إذا) إن جعلناها شرطية، وإلا؛ فخبر (إنَّ) هو جملة: (لا يدري)، وجملة: (لعلَّه يستغفر) : معمول لـ (لا يدري)، والمراد من (لعلَّه يستغفر) : يريد الاستغفار، فلا ينافي أنه يسب؛ أي: يدعو على نفسه، كما سبق؛ فافهم.

ويحتمل أن يكون علة النهي خشية أن يوافق ساعة الإجابة، والترجي هنا عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به؛ أي: لا يدري أمستغفر هو أم سابٌّ مترجيًّا الاستغفار؟ وهو في الواقع بضد ذلك، أو يستغفر؛ بمعنى: يتمكن من الاستغفار والسب؛ كما أن المترجي بين حصول المرجو وعدمه ومتمكن منهما لا على السوية.

ووجه الدلالة من الحديث على الترجمة: أنه أمره بالرقاد، فلولا أن صلاته في هذه الحالة قريبة للبطلان؛ لما أمره بذلك، فدلَّ على أن ما لا يخلو عنه النائم ناقض؛ لأنَّه علله بأنَّه يختلط، فلا يدري أيسب أم يستغفر؟ وذلك من النوم المزيل للعقل، فيكون بمنزلة من سكر، وقد قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣]، ومن ثَمَّ أُلحِق بالنوم غيره من كل ما يزيل العقل؛ كالجنون والإغماء والسكر؛ لأنَّ ذلك أبلغ في الذهول من النوم الذي هو مظنة الحدث، وقد يقال: أشار المؤلف بذكر النوم في الترجمة إلى الحديث المشهور عن علي رضي الله عنه: «العينان وكاء السَّه، فمن نام؛ فليتوضأ»، وأخرجه مسلم وأبو داود في (الصلاة)؛ فتأمل.

وقال المهلب: (وفي قوله: «فإن أحدكم...» إلخ: إشارة إلى العلَّة الموجبة لقطع الصلاة، فمن صار في هذه الحالة؛ فقد انتقض وضوءُه بالإجماع)، واعترض بأن الإشارة إنَّما هي إلى جواز قطع الصلاة أو الانصراف إذا سلَّم منها، وأما النقض؛ فلا يتبين من الحديث؛ لأنَّ جريان ما ذكر على اللسان ممكن من الناعس، مع أنَّه قائل بأن قليل النوم لا ينقض، فكيف بالنعاس؟! وما ادعاه من الإجماع منقوض، فقد صح عن أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وسعيد بن المسيب: أن النوم لا ينقض مطلقًا، انتهى.

وفيه نظر، فإن الإشارة في الحديث إلى التجوز والتخفيف في الصلاة لا إلى جواز قطعها؛ لأنَّه غير جائز، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: ٣٣]، والصلاة خير الأعمال، فلا ريب في عدم جواز قطعها؛ فافهم.

واستظهر في «عمدة القاري» أن الإشارة إلى اقتصار إتمام ما هو فيه، وعدم استئناف صلاة أخرى، قال: (فتماديه على ما كان فيه يدل على أن النعاس اليسير لا ينافي الطهارة)، وتمامه فيه.

اللهم إني أسألك بما في المؤلَّف من الأحاديث النبوية، وبجاهِ قائلها عليه السلام أن تفرج عنا وعن المسلمين، فإنه قد ضاق الحال، وطال المآل، آمين.

[حديث: إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ]

٢١٣ - وبه قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بفتح الميمين بينهما عين ساكنة: عبد الله بن عمرو المقعد (قال: حدثنا عبد الوارث)؛ بالمثلثة: هو ابن سعيد بن ذكوان التنوري (قال: حدثنا أيوب)؛ أي: السختياني، (عن أبي قِلَابة)؛ بكسر القاف وتخفيف اللام والموحدة: عبد الله بن زيد الجرمي، (عن أنس)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) : أنه (قال: إذا نعَس) بفتح العين المهملة (في الصلاة)؛ بحذف الفاعل؛ للعلم به، وفي رواية: (إذا نعس أحدكم في الصلاة)، فصرح به، وفي رواية: (إذا نعس أحدكم)؛ بإسقاط قوله: (في الصلاة)؛ (فلينم)؛ أي بعد إتمامها، أو يتجوز ويخفف في صلاته، ويتمها وينم، لا أنه يقطعها؛ فافهم، (حتى يعلمَ) بالنصب لا غير (ما يقرأ)؛ أي: الذي يقرؤه أو شيئًا يقرؤه، أو مصدرية، لا استفهامية، كما في «عمدة القاري»، ويمكن توجيهه عربية، لكنه بعيد معنًى؛ فتأمل.

وليس هذا خاصًّا بنافلة الليل، كما قاله المهلب، وعلله: بأن الفريضة ليست في أوقات النوم، وليس فيها من التطويل ما يوجب (١) ذلك؛ لأنَّا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فالفرض كذلك إذا أمن فيه بقاء الوقت.

وفي النوم مذاهب؛ أحدها: أنه ناقض للوضوء، وذلك بأن نام غير متمكن فيه من المقعدة -يعني: المخرج- من الأرض؛ بأن نام مضجعًا أو متوركًا أو مستلقيًا على القفا، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور.

الثاني: أن النوم غير ناقض بحال، وهو مذهب أبي موسى الأشعري، والأوزاعي، والأعرج.

الثالث: أنه ناقض للوضوء على كل حال متمكنًا أو لا، قليلًا أو كثيرًا، وهو مذهب الحسن وإسحاق ابن راهويه.

الرابع: كثير النوم ناقض دون قليله، وهو قول الزهري، وربيعة، وإحدى الروايتين عن الأوزاعي، ومالك، وأحمد.

الخامس: إذا نام في الصلاة راكعًا أو ساجدًا على الصفة المسنونة بأن أبدى ضبعيه، وجافى بطنه عن فخذيه؛ فإنه لا يَنْتَقِضُوضوءُه، وكذا إذا نام جالسًا، ومثله ما إذا نام كذلك خارج الصلاة؛ فإنه لا ينتقض وضوءُه، وهو مذهب الإمام الأعظم، وداود، وسفيان الثوري، وغيرهم؛ لحديث مسلم عن أنس قال: (إن الصحابة كانوا ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون)، ولقوله عليه السلام: «لا يجب الوضوء على من نام جالسًا أو قائمًا أو ساجدًا حتى يضع جنبه، فإذا اضطجع؛ استرخت مفاصله»، رواه أصحاب «السنن».

السادس: لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وهو رواية عن أحمد، والصحيح عنه: أن النوم مطلقًا ناقض إلا النوم اليسير عرفًا من جالس أو قائم.

السابع: أنه لا يَنْقُضُ إلا نوم الساجد، وهو مروي عن أحمد.

الثامن: لا يَنْقُضُ النومُ في الصلاة بكل حال وينقض خارجها، وهو قول الشافعي.

التاسع: من نام ساجدًا في مصلاه؛ فليس عليه وضوء، وإن نام ساجدًا في غير مصلاه؛ فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك.

ولو نام وهو متمكن من الأرض، لكنه مستند إلى حائط أو غيره، بحيث لو أزيل المستند؛ سقط النائم؛ اختلف فيه؛ فذهب الحافظ الطحاوي وصاحب «الهداية» والقدوري أنه ينتقض وضوءُه، وروى الإمام أبو يوسف عن الإمام الأعظم: أنه لا ينتقض وضوءُه، وهو ظاهر الرواية، وبه أخذ عامة العلماء، وهو الصحيح.

وينقضه ارتفاع مقعدة قاعد نائم على الأرض قبل انتباهه وإن لم يسقط على الأرض في ظاهر المذهب؛ لزوال المقعدة، وقيل: إن انتبه لما سقط؛ فلا ينتقض، وإن استقر نائمًا، ثم انتبه؛ انتقض؛ لوجود النوم مضجعًا، هذا قول الإمام الأعظم رضي الله عنه، قال في «التبيين» : وهو ظاهر الرواية، وفي «فتح القدير» : وعليه الفتوى، وبه جزم في «السراج»، وهو الصحيح، كما في «المضمرات».

ومن به انفلات ريح هل ينتقض وضوءُه بالنوم؟ أجاب العلامة الشلبي في «حواشي التبيين» : بعدم النقض؛ بناء على ما هو الصحيح من أن النوم نفسه ليس بناقض، وإنما الناقض ما يخرج، ومن ذهب إلى أن النوم نفسه ناقض؛ لزمه نقض وضوء من به انفلات ريح بالنوم، انتهى.

قال في «الخانية» : (النعاس لا ينقض الوضوء، وهو قليل النوم لا يشتبه عليه أكثر ما يقال ويجري عنده) انتهى، وظاهره عدم اشتراط الفهم بل السماع فقط، وبالسماع عبر في «السراج»، و «التاترخانية»، و «التبيين»، والذي في «الدر المختار» تبعًا لـ «البحر» معزوًّا (٢) لشروح «الهداية» التعبير بـ (يفهم)، وظاهره اشتراط الفهم.

فالحاصل: أن اشتراط السماع متفق عليه، وإنما الخلاف في فهم ما يسمعه بحيث لو سئل عما تكلم بحضرته؛ لأجاب بأكثره؛ فإنه غير ناقض اتفاقًا، أما إذا لم يجب بالأكثر، بل بأقل منه؛ فيكون حينئذ ناقضًا، والفهم مستلزم للجواب؛


(١) في الأصل: (جوب).
(٢) في الأصل: (معزيًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>