للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من سعة المال لم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّما احتاج إلى تجديده؛ لأنَّ جريد النخل قد كان نخر في أيامه وبلي، ثم جاء الأمر إلى عثمان والمال في زمانه أكثر؛ فحسنه بما يقتضي الزخرفة، فلم يزد فيه على أن جعل مكان اللبن حجارة وقصة، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يقصر هو وعمر رضي الله عنهماعن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علمهما بكراهة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك، وليُقتدى بهما في الأخذ من المقاصد بالقصد والكفاية، والزهد في معالي أمورها، وإيثار البلغة منها، ولهذا فقد أنكر على عثمان بعض الصحابة) انتهى.

قال إمام الشَّارحين: (وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك؛ صونًا من الفتنة) انتهى.

قلت: وذكر النووي وغيره أن أول من وسَّع المسجد واتخذ له جدارًا دون القامة عمر بن الخطاب، وذلك؛ لأنَّه اشترى دورًا وضمَّها إليه، ثم وسَّعه عثمان واتَّخذ له الأروقة وبناه بالأحجار المنقوشة، ثم وسعه عبد الله بن الزبير، ثم عبد الملك بن مروان، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي، ثم المأمون، وعليه استقرَّ بناؤه إلى الآن على الصحيح، انتهى، قلت: وقد وسَّعه أيضًا السلطان عبد المجيد العثماني في زمن خلافته سنة نيف وسبعين ومئتين وألف.

وقال ابن المُنيِّر: (لما شيَّد الناس بيوتهم وزخرفوها؛ ناسب أن يُصنع ذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، وقد حدث عند الناس مؤمنهم وكافرهم تشييد بيوتهم وتزيينها ولم يمكن أن يمنعوا من ذلك؛ فكان بيت الله أولى، وذلك لو أنا بنينا مساجدنا باللبن النيء وسقفناها بالسعف، وجعلناها متطامنة بين الدور الشاهقة، وفعلها أهل الذمة؛ لكانت مستهانة، فحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا، ولو أنَّ المسجد الشريف أعيد بالطين والسعف، وشيدت دور المدينة إلى جنبه؛ لكان ذلك إهمالًا من المسلمين؛ فالذي اختاره الله تعالى الآن للمسلمين خيرًا إن شاء الله تعالى، ولو كان الزمان كما كان؛ لما عدل منه عن إعادة المسجد إلى ما يناسب حال القوم من التواضع والتقنع) انتهى.

واعترضه بعضهم -على ما نقله ابن حجر- بأن المنع إن كان للحثِّ على اتِّباع السلف وترك الرفاهية؛ فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة؛ فلا؛ لبقاء العلة، انتهى.

واعترضه العجلوني فقال: (المقرر في مذهبهم التفصيل بين كونه في القبلة؛ فيكره، وإلا؛ فلا)، قال الشيخ خليل في «مختصره» : (وكره تزويق قبلة المسجد) انتهى؛ فاعرفه، انتهى.

وزعم ابن حجر: ورخَّص في ذلك بعضهم وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال، انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (مذهب أصحابنا: أنَّ ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد؛ معناه: تركه أولى، وقدمرَّ الكلام فيه عن قريب) انتهى.

قلت: وعبارته فيما تقدم، وبهذا استدل أصحابنا على أن نقش المسجد وتزيينه مكروه، وقول بعض أصحابنا: لا بأس بنقشه؛ معناه: أنَّ تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يصرفه سواء كان ناظرًا أو غيره، انتهى.

واعترضه العجلوني بعبارة «النهر» منتصرًا لابن حجر؛ فإنَّها يعلم منها أنَّه قيل: بندبه، لا كما يُفهمه كلامه، وعبارة «النهر» : (ولا يُكره أيضًا نقشه بالجِصِّ -بالكسر والفتح، معرَّب كج- وبالذهب ونحوه)، قيل: هذه العبارة مساوية لقول «الجامع» : (لا بأس بذلك)؛ بناءً على أنَّ المنفي كراهة التحريم، وأنَّ لفظ: (لا بأس) لا يلزم استعماله فيما تركه أولى.

وقال السرخسي: (إن ما في «الجامع» فيه إشارة إلى أنه لا يأثم، ولا يؤجر، وقيل: يندب، والكلام في غير المحراب: أمَّا هو؛ فيكره نقشه، وفي داخل المسجد، أما خارجه؛ فيكره) انتهى.

قلت: وكلام العجلوني فاسد الاعتبار؛ فإن المصرَّح به في كتب المذهب المعظم كـ «التنوير» و «شروحه» : أنه لا بأس بنقش المسجد -خلا محرابه- بجص وماء ذهب لو بماله لا من مال الوقف، وضمن متولِّيه لو فعل، قال صاحب «النهاية» : (أفاد أنَّ المستحب غيره؛ لأنَّ البأس الشدَّة؛ فلفظ: «لا بأس» : دليل على أنَّ المستحب غيره)، انتهى، وقال في «المضمرات» : (الصرف إلى الفقراء أفضل، وعليه الفتوى)، ومثله في: «الهندية»، وقيل: إنه مكروه؛ للحديث الصحيح: «إن من أشراط الساعة أن تزيَّن المساجد...» الحديث؛ فإن العلة في الكراهة: هو إلهاء (١) المصلين، وقد صرَّح صاحب «البدائع» وغيره أن الخشوع في الصلاة مستحب، ومثله في «الأشباه» فأفاد أن الكراهة للتنزيه، وهي أمارة قولهم: (لا بأس)، فإنَّها تدل على أن تركه أولى؛ وهي مفادة كراهة التنزيه، ولا فرق في جدرانه؛ لأنَّ المحراب يلهي الإمام، وجدار القبلة بتمامه يلهي المصلين خلفه، وكذا حائط الميمنة والميسرة يلهي القريب منه، بخلاف السقف والمؤخر؛ لأنَّه لا يلهي، وإذا كان الإلهاء موجودًا في حائط القبلة والميمنة والميسرة؛ للمصلين؛ فات الخشوع، وتكون الصلاة مكروهة تنزيهًا، ففعل النقش في هذه الحيطان مكروهة تنزيهًا؛ كما لا يخفى، وهذا معنى عبارة «النهر» وهو الموافق لعبارة إمام الشَّارحين، فما فهمه العجلوني غير صحيح؛ فافهم.

(٦٣) [باب التعاون في بناء المسجد]

هذا (باب) حكم (التعاون)؛ أي: تعاون الناس بعضهم بعضًا (في بناء المسجد)؛ بالإفراد، والألف واللام فيه للجنس، وهي رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والحموي: (في بناء المساجد)؛ بالجمع.

و (التعاوُن)؛ بضمِّ الواو: مصدر تعاون القوم؛ تساعدوا، وتقدير الحكم في الترجمة أولى من تقدير الجواز؛ كما فعله العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعم والثاني أخص، ومراد المؤلف: العموم كما هي عادته في جميع التراجم، وأشار المؤلف بهذه الترجمة إلى أنَّ التعاون في فعل الخير بين الناس مطلوب مرغوب فيه؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: ٢]؛ فتعاون الناس بعضهم بعضًا مندوب كبناء المساجد، وتعمير السُّبُلات وغير ذلك، فمن زاد في معاونته؛ زاد أجره، وهو شامل للمعاونة بالمال أو البدن، أما الصلاة والصوم؛ فليس فيهما معاونة؛ لأنَّهما عبادة قاصرة على صاحبها، فلا يجوز التعاون فيها؛ كما لا يخفى؛ فافهم.


(١) في الأصل: (الإلهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>