للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وقول الله عزَّ وجلَّ) كذا في رواية الكشميهني على ما قاله القسطلاني، لكن قال إمام الشَّارحين: (إنها رواية الأكثرين)، وزاد فيه: (إلى قوله: {المهتدين})، وتبعه ابن حجر في «الفتح» و «العمدة»، وقال إمام الشَّارحين أيضًا: (وفي رواية أبي ذر: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} إلى قوله: {المُهْتَدِينَ} [التوبة: ١٧ - ١٨]، ولم يقع في روايته لفظ: «وقول الله عز وجل») انتهى، وفي رواية ابن عساكر: (قوله تعالى)، كذا ذكرها القسطلاني بدون عطف، وفي رواية بالعطف، والله تعالى أعلم: ({مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ})؛ أي: بالله؛ أي: ما ينبغي لهم وما استقام لهم ({أَن يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ})؛ بالإفراد في رواية الأكثرين، وهي قراءة يعقوب، وأبي عمرو، وابن كثير، وأراد به: المسجد الحرام، يدل عليه قوله تعالى: {وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [التوبة: ١٩]، وقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} [التوبة: ٢٨]، وفي رواية الأصيلي وأبي ذر: ({مساجد})؛ بالجمع على ما في القسطلاني، وقد اشتبه عليه العجلوني عبارته؛ فزعم أن رواية أبي ذر: ({مسجد})؛ بالإفراد وليس كذلك، وهذه الرواية هي قراءة الآخرين، والمراد بقراءة الجمع: المسجد الحرام أيضًا، ولهذا قال الحسن البصري: (إنما قال: {مساجد}؛ لأنَّه قبلة المساجد كلها)، وقال القزاز: (إنما ذهبت العرب بالواحد إلى الجميع، وبالجميع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون، فيقول: أخذت في ركوب البراذين، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار، ويريد: الدراهم والدنانير)، وقال صاحب «الكشاف» : (والمراد بـ «المسجد»؛ بالإفراد: المسجد الحرام، يدل عليه أن سبب نزول الآية: أنَّ المهاجرين والأنصار أقبلوا على أسارى بدر، فعيَّروهم بالشرك، وطفق علي بن أبي طالب يوبِّخ العبَّاس بقتال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقطيعة الرحم، وأغلظ عليه في القول، فقال العبَّاس: تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا، فقالوا: أوَلكم محاسن؟ فقالوا: نعم، ونحن أفضل منكم جدًّا، إنَّا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني؛ فنزلت)، ولا يرد على هذا قراءة: (المساجد)؛ بالجمع التي هي قراءة الأكثرين؛ لأنَّهم جوزوا أنَّ المراد بها: المسجد الحرام، وإنَّما جمع؛ لأنَّه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر سائر المساجد، أو لأنَّ كل بقعة منه مسجد، أو أنَّ المراد به الجنس؛ أي: جنس المساجد، فإذا لم يصلحوا أن يعمروا جنسها؛ دخل تحت ذلك ألَّا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته، وهو آكد؛ لأنَّ طريقه طريق الكناية؛ كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله؛ أنفى لقراءة القرآن من تصريحك بذلك، انتهى.

وزعم ابن حجر أنَّ المؤلف ذكر هذه الآية لمصيره إلى ترجيح أحد الاحتمالين من الآية؛ لأنَّ قوله: {مساجد الله} : يحتمل أن يراد بها: موضع السجود، وأن يراد بها: المساجد، وعلى الثاني يحتمل أن يراد بعمارتها: بنيانها، وأن يراد بها: الإقامة فيها لذكر الله تعالى.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ما قاله هذا القائل لا يناسب معنى هذه الآية أصلًا، وإنَّما يناسب معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...} الآية [التوبة: ١٨]، على أن أحدًا من المفسِّرين لم يذكر هذا الوجه الذي ذكره هذا القائل، وإنما هذا تصرُّف منه بالرأي في القرآن؛ فلا يجوز ذلك، ويجب الإعراض عنه، قال المفسرون: معنى هذه الآية؛ ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده [لا شريك له، ومن قرأ {مسجد الله} أراد به: المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض] (١) الذي (٢) بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسَّسه خليل الرحمن عليه السَّلام، ثم ساق عبارة الزمخشري...) إلى آخر كلامه رضي الله عنه.

واعترضه العجلوني؛ فقال: (دعواه عدم مناسبة ما قاله ابن حجر لمعنى هذه الآية وحصره المناسبة لمعنى الثانية؛ غير ظاهر، وكذا دعواه أن ما قاله لم يذكره أحد من المفسرين؛ لأنَّه قد ذكر هذا المعنى البغوي في «تفسيره» وعبارته: «أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد إنَّما تعمر لعبادة الله تعالى وحده، فمن كان كافرًا بالله؛ فليس من شأنه أن يعمرها؛ فذهب جماعة إلى أنَّ المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمته عند الخراب؛ فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا يمتثل، وحمل بعضهم العمارة ههنا على دخول المسجد والقعود فيه» انتهى، فانظر إلى قوله: «فذهب جماعة...» إلخ؛ تجده دافعًا لاعتراضه، وما نقله عن الزمخشري لا ينافي ما ذكره ابن حجر، على أنَّ الكرماني وغيره قال في كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم، وفيه إرشاد إلى أن للعالم الفَهِم أن يستخرج من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولًا عن المفسرين بشرط موافقته للأصول الشرعية، انتهت؛ فأعجب من قوله وتشنيعه) انتهى.

قلت: وما ذكره العجلوني فاسد الاعتبار؛ لأنَّ قوله (دعواه عدم مناسبة ما قاله...) إلى آخره،؛ ممنوع؛ فقد ذكر ذلك القاضي البيضاوي، وعبارة البيضاوي: ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ...} الآية؛ أي: إنَّما يستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودرس العلم فيها، وصيانتها عما لم تُبنَ له: كحديث الدنيا، وعن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: قال الله تعالى: «إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زوَّاري فيها عُمَّارها؛ فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني في بيتي؛ فحقعلى المَزُور أن يكرم زائره») انتهى، فهذا دليل ظاهر على أن ما ذكره مناسب لمعنى الآية الثانية؛ كما قاله إمام الشَّارحين، لكن فيه أن ما زعمه ابن حجر تلفيق وخلط؛ لأنَّ بعضه يوافق معنى ما ذكره البيضاوي، وبعضه لا يوافق أصلًا؛ بل ولا يوافق أحدًا، فهو خبط في الكلام؛ فكأنَّه قال ولا يدري ما يقول؛ فافهم.

وقوله: (وكذا دعواه أن ما قاله لم يذكره أحد...) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ فإن عبارة البغوي لا تدل على ما قاله؛ لأنَّه لم يقل: إنَّ المراد من الآية: أن يراد بها موضع السجود، فهو قول بالرأي بعينه، وكذا لم يقل البغوي: وأن يراد بها المساجد.

وقوله: (فانظر إلى قوله: فذهب جماعة...) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه وإن كان ظاهره أنَّه موافق لما قاله ابن حجر، لكنه في الحقيقة مخالف له ومباين؛ لأنَّ عبارة البغوي مبنية على مرمة المساجد؛ لأنَّه قال: (من مرمته عند الخراب)، وما زعمه ابن حجر أنَّه يراد بعمارتها: بنيانها؛ لأنَّ منطوق الآية ومفهومها أنه يجب على المسلمين منعهم من بناء المساجد؛ كما قاله البغوي وغيره؛ فلا شك أن ما قاله ابن حجر تصرُّف من عنده وهو القول بالرأي


(١) ما بين معقوفين سقط من الأصل، وهو مثبت من «عمدة القاري».
(٢) في الأصل: (التي)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>