وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتفاض الماء»، قال وكيع: يعني: الاستنجاء، قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) انتهى.
قلت: وهذا مرود؛ لأنَّ قوله: (القياس على الوضوء...) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ الله تعالى بيَّن فرائض الوضوء في كتابه العزيز، وبيَّن أنَّ الفرض غسل الوجه، وهو ما يواجه به الإنسان، والمواجهة في الفم والأنف منعدمة غير حاصلة، فلا يتناولها افتراض غسل الوجه، فتثبت سنيتهما في الوضوء، أمَّا الغسل؛ فإنَّه لما أمر سبحانه بقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦]؛ ومعناه: طهروا أبدانكم، وهو يشملها؛ لأنَّهما من البدن؛ علم منه افتراضهما في الغسل؛ لأنَّ المراد افتراض غسل كل ما يمكن غسله من البدن من غير حرج، وغسلهما ممكن، فثبتت فرضيتهما، فالقياس على الوضوء غير صحيح، كما لا يخفى.
وقوله: (والثاني ما رواه أحمد...) إلخ هذا أيضًا مردود؛ لأنَّ هذا الحديث قد ورد في وفد ثقيف، ففي «مسلم» : أنَّ الصحابة تماروا في الغسل عند النبيِّ عليه السلام، فقال بعض القوم: أمَّا أنا؛ فأغسل رأسي بكذا وكذا، فقال النبيُّ عليه السلام: «أمَّا أنا؛ فأفيض ثلاثًا»، انتهى.
فعلم أنَّ السؤال وقع عن غسل الرأس بمرة، أو مرتين، أو أكثر لا عن بيان فرض الغسل بدليل أنَّ بعض القوم قال: (أمَّا أنا؛ فأغسل رأسي بكذا وكذا)؛ أي: مرات، فأجابهم النبيُّ عليه السلام بأنَّ الإفاضة ثلاث أكف، فوقع الجواب طبق السؤال، فليس فيه دليل على عدم افتراضهما، بل فيه دليل على وجوبهما، ويدل لهذا ما في «أوسط الطبراني» مرفوعًا: «تفرغ بيمينك على شمالك، ثم تدخل يدك في الإناء، فتغسل فرجك، وما أصابك، ثم تتوضأ وضوءك للصلاة، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات تدلك رأسك كل مرة»، فعلم بهذا أنَّ ما رواه أحمد فيه طيٌّ، فحذف منه هذه الجملة؛ لأنَّه وقع جوابًا للسؤال، والمضمضة والاستنشاق إذا وقعا في ضمن الوضوء الذي للغسل يكفي عن الإتيان بهما مرة أخرى؛ لأنَّ الفرض التعميم، وقد حصل؛ فافهم.
وقوله: (وما رواه مسلم: «عشر من الفطرة...») إلخ هذا مردود أيضًا؛ لأنَّ الفطرة الإسلام، ومنه قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠]، وقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة»؛ والمعنى: عشر من الإسلام؛ أي: فرائض الإسلام، إلا أنَّ بعضها خرج عن الفرضية بدلائل أخر وبقي على السنية؛ كالاستنجاء ونحوه، وبعضها بقي على أصله؛ كاللحية، فإنَّها إذا طالت عن مقدار القبضة؛ يجب أخذ الزائد عليها، وبعضها بقي على أصله، وهو الوجوب؛ كالمضمضة والاستنشاق في الغسل مع ما ضم إلى ذلك من الدلائل المفيدة للوجوب، على أنَّ قول مصعب: (ونسيت العاشرة) يحتمل أن تكون غير المضمضة، وأن يكون المراد بـ (الاستنشاق)؛ أي: حال الوضوء؛ لذكره (السواك)، وهو من سنن الوضوء، (ونتف الإبط، وحلق العانة) يكون حال الجنابة، كما ورد ذلك في حديث، فالذي ترجح أنَّ المضمضة والاستنشاق في الغسل واجبان، وفي الوضوء سنتان، وهو الحق الذي لا يعدل عنه، وأدين اللهَ على ذلك، والله أعلم.
(٨) [باب مسح اليد بالتراب ليكون أنقى]
هذا (باب مسح اليد) أي: يد المغتسل (بالتراب؛ لتكون) أي: اليد (أنقى)؛ بالنون الساكنة بعد الهمزة المفتوحة، وبالقاف؛ أي: أطهر وأنظف من غير الممسوحة، أو منها قبل مسحها على حد قوله تعالى: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: ٣٤]، وذلك لأنَّ أفعل التفضيل لا يستعمل إلا بإضافة، أو بـ (اللام)، أو بـ (من)، والضمير في (لتكون) اسم كان، وخبره قوله: (أنقى)، فلا مطابقة بينهما مع أنَّها شرط بين اسم كان وخبره، وذلك أنَّ أفعل التفضيل إذا كان بـ (من) ولو مقدرة؛ فهو مفرد مذكر، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، ونحوه للكرماني، واعترضه البرماوي فقال: (إن عنى أنَّ اسمها ضمير اليد؛ صح ما قاله، والظاهر أنَّ اسمها يعود على المسح أو نحوه) انتهى.
قلت: وهذا ممنوع، فإنَّ نسخة صاحب «عمدة القاري» التي شرح عليها كالكرماني بمثناة فوقية، ولهذا أعيد اسم (تكون) إلى اليد.
فقوله: (والظاهر...) إلخ؛ ليس بظاهر، ولا صحيح، كما لا يخفى، نعم؛ لو كانت النسخة بمثناة تحتية يلزم أن يكون اسم (تكون) عائدًا على المسح، وليست النسخة كذلك، بل النسخ بالفوقية فلا يرد ما قاله؛ فليحفظ.
قال في «عمدة القاري» : (فإن قلت: هذه الترجمة قد علمت من حديث الباب المتقدم في قوله: (ثم قال بيده الأرض، فمسحها بالتراب)، فما فائدة التكرار؟ وأجاب: بأنَّ في الباب الأول دلك اليد على التراب، وههنا دلك اليد على الحائط، وبينهما فرق) انتهى.
زاد الكرماني فقال: (غرض البخاري من أمثاله؛ الشُّعور باختلاف استخراجات الشيوخ وتفاوت سياقاتهم؛ مثلًا: عمر بن حفص يروي هذا الحديث في معرض بيان المضمضة والاستنشاق في غُسل الجنابة، والحميدي رواه في معرض بيان مسح اليد بالتراب، فحافط على السياق، وما استخرجه الشيوخ فيه مع ما فيه من التقوية والتأكيد) انتهى.
[حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده]
٢٦٠ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا الحُميْديُّ)؛ بضمِّ الحاء المهملة، وسكون التحتية؛ مصغَّرًا، ولأبي ذر: (عبد الله بن الزَّبير الحميدي)؛ بفتح الزاي (قال: حدثنا سفيان) : هو ابن عيينة؛ بضمِّ العين المهملة (قال: حدثنا الأعمش) : هو سليمان بن مهران، (عن سالم)؛ بالسين المهملة (ابن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، (عن كُريب) بضمِّ الكاف؛ مصغَّرًا: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) : عبد الله رضي الله عنهما، (عن مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم اغتسل من الجنابة) والفاء في قوله: (فغسل فرجه)؛ أي: مذاكيره؛ القبل والدبر وما حولهما بعد أن أفرغ بيمينه على شماله (بيده) اليسرى لتفصيل المجمل وللتعقيب، والمفصل يعقب المجمل، فلا يرد أنَّ غسله الفرج ليس متعقبًا على الغسل، وكذا الدلك والوضوء، (ثم دلك بها) أي: بيده (الحائط) وفي الرواية السابقة: (دلك يده بالتراب) وذلك لأجل أن يذهب أثر المني اللزج، وهذا موضع مطابقة الترجمة، (ثم غسلها)؛ أي: بالماء؛ ليكون الغسل أطهر وأنظف، (ثم توضأ وضوءه للصلاة) بأن تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثلاثًا ثلاثًا، ومسح رأسه، وأفاض على جسده ثلاثًا، (فلما فرغ من غُسله)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: لجميع ما يمكن غسله من بدنه الشريف؛ (غَسل رجليه)؛ أي: بعد أن تنحى عن مكانه الذي اغتسل فيه تحرُّزًا عن الماء المستعمل.
وزعم ابن حجر أنَّ هذه (الفاء) تفسيرية، وليست بتعقيبية؛ لأنَّ غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ، ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: (من دقق النظر وعرف أسرار العربية يقول: الفاء ههنا عاطفة، ولكنها للترتيب؛ أي: المستفاد من (ثم) الدالة عليه، ومعنى الحديث: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم اغتسل فرتب غسله، فغسل فرجه، ثم توضأ، وكون الفاء للتعقيب لا يخرجها عن كونها عاطفة) انتهى.
وزعم العجلوني (أنَّ معنى كلام ابن حجر أنَّها تفصيلية محضة لا تعقيب فيها؛ لما ذكره، وذلك لا ينافي كونها عاطفة، لكن يرد عليه صحة التعقيب فيها لما ذكرنا؛ فافهم) انتهى.
قلت: فإنَّ كونها للتعقيب معنًى صحيح فيها، فمنعه غير صحيح، على أنّه قد يقال كونها