(٨) [باب الاستحاضة]
هذا (باب) حكم (الاستحاضة) : وهي جريان دم المرأة من فرجها في غير أوانه، وهو أنواع:
الأول: ما تراه المرأة في أقل من ثلاثة أيام التي هي أقل مدة الحيض.
الثاني: ما تراه المرأة في أكثر من عشرة أيام التي هي أكثر مدة الحيض، فالناقص عن الأقل والزائد على الأكثر استحاضة؛ لأنَّ الشارع لما بين أقله وأكثره؛ علم أن الناقص عن الأقل والزائد على الأكثر؛ استحاضة ضرورة.
الثالث: ما زاد على حيض المبتدئة وحيضها عشرة من كل شهر؛ فهو استحاضة.
الرابع: ما زاد على نفاس المبتدئة؛ وهو أربعون.
الخامس: ما زاد على العادة في الحيض والنفاس، وجاوز أكثرهما؛ أي: عادة عرفت لحيض وجاوزت العشرة، أو نفاس وجاوز الأربعين، فإذا كان لها عادة معروفة في الحيض؛ كسبعة مثلًا فرأت الدم اثني عشر يومًا فخمسة أيام بعد السبع استحاضة، وإذا كانت لها عادة معروفة في النفاس؛ كثلاثين يومًا مثلًا، فرأت الدم خمسين يومًا فالعشرة التي بعد الثلاثين استحاضة، كذا في (الدرر).
وإنما لم يقل: فالعشرون التي بعد الثلاثين؛ لأنَّ المحتاج إلى البيان العشرة التي بعد الثلاثين.
السادس: ما تراه الحامل؛ فإنه استحاضة ولو في حال الولادة؛ لأنَّ الله تعالى أجرى عادته بانسداد فم الرحم ما دام الولد فيه؛ حتى قالوا: إن الدم يكون غذاء للولد، والرحم كالقربة، له أفواه قيل: خمسة، وقيل: أكثر.
وأقل مدة تحيض فيها المرأة تسع سنين، وهي أقل مدة لو ادعت فيها الأنثى البلوغ؛ صدقت؛ لأنَّ الحيض لا يعلم إلا منها، وأقل مدة الحمل ستة أشهر، وأكثره سنتان.
السابع: ما تراه الآيسة؛ فإنه استحاضة؛ وهي من بلغت خمسين سنة، أو خمسًا وخمسين سنة.
الثامن: ما تراه الصغيرة؛ فإنه استحاضة؛ وهي ما دون تسع سنين.
التاسع: ما تراه المريضة مرض الرحم؛ فإنه استحاضة، وتمامه في (منهل الطلاب)، والتتبع ينفي الحصر.
[حديث: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة]
٣٠٦ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي، (عن هشام بن عُرْوة) بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء المهملة أيضًا، هو ابن الزبير، وسقط لابن عساكر: (بن عروة)، (عن أبيه) هو عروة المذكور ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (أنها قالت) أي: عائشة: (قالت فاطمة بنت أبي حُبَيْش) بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبي حبيش قَيْس بن عبد المطلب بن أسد، هذا هو الصواب، وما قيل: إنَّه ابن المطلب؛ فخطأ ظاهر؛ فافهم، (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) متعلق بقوله: (قالت) : (يا رسول الله؛ إني) امرأة (لا أطهر) بضمِّ الهاء؛ أي: لا ينقطع دمي على العادة، بل يستمر، ووجه استعمالها (إنَّ) هنا؛ لتحقيق نفس القضية إذ كانت بعيدة عن الوقوع نادرة الوجود، فلهذا أكدت قولها بكلمة (إنَّ)؛ لأنَّ كلمة (إنَّ) لا تستعمل إلا عند إنكار المخاطب؛ لدخوله أو التردد فيه، ولم يكن النبيُّ الأعظم عليه السلام منكرًا لاستحاضتها ولا تردد فيها، وظنَّت أن طهارة الحائض بالانقطاع؛ فكنَّت بعدم الطهر عن اتصال الدم، وكانت علمت أن الحائض لا تصلي، وظنَّت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم من الفرج، فأرادت تحقيق ذلك.
فقالت: (أفأدع) أي: أفأترك (الصَّلاة؟) أي: جنسها؛ فرضها، وواجبها، ونفلها، (فقال رسول الله) وللأصيلي: (النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) : لا تدعي الصَّلاة أيام استحاضتك، ومثلها الصوم؛ والمعنى: صلي وصومي ولو قطر الدم على الحصير.
فإن قلت: في هذا التركيب وجدت الهمزة؛ وهي تقتضي عدم المسبوقية بالغير، ووجدت الفاء؛ وهي تقتضي المسبوقية به، فكيف يجتمعان؟
قلت: الهمزة مقحمة وتوسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول على الثاني، أو الهمزة ليست باقية على صرافة الاستفهامية؛ لأنَّها للتقرير هنا فلا تقتضي الصدارة أو هو عطف على مقدر؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟ قاله الكرماني.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : (هذا سؤال على استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته؛ وهو كلام من تقرر عنده أن الحائض ممنوعة من الصَّلاة) انتهى.
والحاصل: أن في مثل هذا التركيب وجهين؛ أحدهما: وعليه جمع أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها، وثانيهما: وعليه جرى الإمام جار الله أن الفاء للعطف على مقدر بين الهمزة والفاء؛ أي: أيكون لي حكم الحائض فأدع الصَّلاة؟
قال عليه السلام: (إنما ذلكِ) بكسر الكاف (عِرْق) بكسر العين المهملة، وسكون الراء المهملة أيضًا، وهو المسمى بالعاذِل -بالعين المهملة، والذال المعجمة المكسورة وقد تهمل، وباللام أو بالراء- أي: دم عرق انفجر ليس من الرحم، وعلامته أنه أحمر رقيق لا رائحة له، (وليس بالحَيضة) بفتح الحاء المهملة؛ لأنَّه عليه السلام أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض، وقيل: بكسرها على إرادة الحال، والفتح هو الأظهر هنا، بل المتعين، وعليه أكثر المحدثين، بل كلهم؛ فافهم.
وإنَّما لم يكن حيضًا؛ لأنَّ دم الحيض متغير اللون، ثخين، منتن الرائحة، لذاع -بالذال المعجمة، ثم العين المهملة-؛ لأنَّ ما كان بغير الحيوان كالنار؛ فهو لذع-بالمعجمة ثم المهملة- وما كان بالحيوان ذي السم كالعقرب؛ فهو لدغ-بالمهملة، ثم المعجمة- ولم يرد إهمالهما معًا ولا إعجامهما كذلك، وقد نظم بعضهم ذلك فقال:
فلدغ لذي سم بإهمال أول... وفي النار بالإهمال للثان فاعرفا
والاعجام في كل والإهمال فيهما... من المهمل المتروك حقًّا بلا خفا
ومعنى كونه لذاعًا: محرق؛ أي: موجع ومؤلم، كذا في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب، اللهم؛ فرج عني والمسلمين بجاه النَّبيِّ عليه السلام والآل والأصحاب.
(فإذا أقبلت) أي: وجدت (الحَيضة) بفتح الحاء المهملة أيضًا، ويجوز كسرها على ضعف؛ (فاتركي الصَّلاة) فرضها ونفلها، ومثلها الصوم، والطواف، وغيرها، ففيه نهي المستحاضة عن الصَّلاة في زمن الحيض وهو نهي تحريم، ومقتضاه فساد الصَّلاة هنا، وهو إجماع، وظاهر الحديث يعم الصَّلاة المفروضة والنافلة، ويتبعها الطواف وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة والشكر وغيرها.
(فإذا ذهب قدرها) أي: قدر الحيضة، وفي الرواية السابقة: (وإذا أدبرت)، والمراد: انقطاع الحيض، وعلامته: الزمان والعادة، فهو الفصيل، فإذا أضلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، (فاغسلي عنكِ) بكسر الكاف (الدم) أي: دم الحيضة، (وصلِّي) أي: بعد الاغتسال، كما سيأتي التصريح به في باب (إذا حاضت في شهر ثلاث حيض)، وفي لفظ: (فدعي الصَّلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)، وفي لفظ: (ثم توضئي لكل صلاة)، وفي لفظ: (تغتسل الغسل الأول، ثم تتوضأ لكل صلاة)، وعند أبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنَّ أمَّ حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فاستفتت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي»، وكانت تغتسل في مركز في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو