للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الإصبع الواحدة لجميع الأصابع كما في أكثر الروايات، أو يحمل على تعدد القصة؛ لأنَّه عليه السلام وقع له هذا الأمر في مواطن كثيرة؛ فتأمل.

فتوضؤوا (حتى توضؤوا من عند آخرهم)؛ أي: توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم، ولم يبق منهم أحد، والشخص الذي هو آخرهم داخل في هذا الحكم؛ لأنَّ السياق يقتضي العموم والمبالغة؛ لأنَّ (عند) هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى (في)، فكأنَّه قال: حتى توضأ الذين هم في آخرهم، وأنس رضي الله عنه داخل في عموم لفظ (الناس)، ولكن الأصوليين اختلفوا في أن المخاطِب -بكسر الطاء- داخل في عموم متعلق خطابه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا أم غير داخل؟ والجمهور: على أنه داخل، كذا قرره في «عمدة القاري»، ثم قال: و (حتى) هنا حرف ابتداء، وهو كناية عن توضؤ جميعهم حتى أنس كما مر؛ يعنيتُبتدَأ بعده الجملة المستأنفة وهي اسمية وفعلية، فالفعلية يكون فعلها ماضيًا ومضارعًا؛ نحو: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: ٩٥]، و «حتى توضؤوا»، ونحو: {حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} [البقرة: ٢١٤] في قراءة نافع، و (من) للغاية وهو الغالب عليها حتى ادَّعى قوم أنَّ سائر معانيها راجعة إليها، وزعم الكرماني: أنَّ (من) للبيان، وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّه إنَّما تكون (من) للبيان إذا كان فيما قبلها إبهام، ولا إبهام هنا على أنَّ (من) التي للبيان كثيرًا ما يقع بعد (١) (ما) و (مهما) (٢)؛ لإفراط إبهامهما؛ نحو: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: ٢]، و {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} [الأعراف: ١٣٢]، ومع هذا أنكر قوم مجيء (من) للبيان، انتهى.

وتعقَّبه العجلوني، فقال: (وقد يقال: في ضمير «توضؤوا» إبهام، فيصح البيان) انتهى.

قلت: وهو مردود؛ لأنَّ الجماعة الحاضرين يومئذ كلهم معلومون معروفون للنبي الأعظم عليه السلام الدَّال عليهم ضمير (توضؤوا)، فلا إبهام أصلًا على أنه قد سبق أن عددهم معلوم على اختلاف الروايات، فمن أين جاء الإبهام؟! ولا يقول ذلك إلا من أحاط به الوهم والأوهام.

ونبع الماء من بين أصابعه عليه السلام أعظم معجزة مما أوتيه موسى عليه السلام حين ضرب بعصاه الحجر في الأرض؛ لأنَّ الماء معهود أن يتفجر من الحجارة، وليس بمعهود أن يتفجر من بين الأصابع؛ لأنَّها من لحم ودم، فلم يعهد من غيره عليه السلام، وهذه القضية -كما قاله عياض- رواها الثقات من العدد الكثيرعن الجم الغفير عن الكافَّة متصلًا عمن حدَّث بها من جملة الصحابة، وإخبارهم أن ذلك كان في مواطن اجتماع الكثير منهم من محافل المسلمين، ومجمع العساكر، ولم يُرْوَ عن أحد من الصحابة مخالفة الراوي فيما رواه، ولا إنكار عما ذكر عنهم أنَّهم رأوه كما رآه، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق منهم؛ لأنَّهم المنزهون عن السكوت على الباطل والمداهنة في كذب، وليس هناك رغبة ولا رهبة تمنعهم، فهذا النوع كله ملحق بالقطعي من معجزاته عليه السلام، وبهذا يرد على ابن بطال؛ حيث قال: هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة إلا أنَّه لم يرو إلَّا من طريق أنس، وذلك -والله أعلم- لطول عمره، ويطلب الناس العلو في السند، انتهى فافهم.

وفي الحديث عدم وجوب طلب الماء للتطهير قبل دخول الوقت؛ لأنَّه عليه السلام لم ينكر عليهم التأخير، فدل على الجواز، وذكر ابن بطال: أنَّ الإجماع على أنَّه إن توضأ قبل الوقت؛ فحسن.

قلت: والتيمم كالوضوء، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وقال الشافعي: لا يجوز قبل دخول الوقت، ورد: بأنَّه لا فرق بينهما فمن أجاز الوضوء قبل دخول الوقت؛ يلزمه أن يجيز التيمم أيضًا؛ لأنَّه خلف عن الوضوء، والخلف يتبع الأصل فيما هو من لوازمه، وأوصافه، وأحكامه، لا يقال: إن الوضوء لا يحتاج إلى النية، والتيمم محتاج لها؛ لأنَّا (٣) نقول: إن الماء خلق مطهرًا بنفسه بنص القرآن، والتراب ليس كذلك، بل هو ملوث، فبهذا الاعتبار احتاج إلى النية؛ فافهم واحفظ.

وفيه دلالة على أنَّه يستحب طلب الماء لمن كان على غير طهارة، وعند دخول الوقت يجب، وفيه رد على من ينكر المعجزة من الملاحدة، وفيه دليل على وجوب المساواة عند الضرورة لمن كان عنده (٤) فضلة ماء عن وضوئه، والله تعالى أعلم.

(٣٣) [باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان]

هذا (باب) بيان طهارة (الماء الذي يُغسَل)؛ بضم التحتية على صيغة المجهول (به شعَر) بفتح العين (الإنسان)؛ أي: بني آدم؛ لأنَّ شعر الإنسان طاهر، فالماء الذي يغسل به طاهر، فأشار المؤلف إلى أن حكم الشعر الطهارة؛ لأنَّ المغتسل قد يقع في غسله من شعره، فلو كان نجسًا لتنجس الماء بملاقاته، ولم ينقل عن أحد أنَّ النبي الأعظم عليه السلام تجنب ذلك في اغتساله ووضوئه، بل كان عليه السلام يخلل أصول شعره، وهو يفضي إلى تناثر شعره، فدل على طهارته، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور.

(وكان عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رباح، فيما وصله محمد بن إسحاق الفاكهي في أخبار مكة بسند صحيح: أنه (لا يرى به)؛ أي: بالانتفاع بشعر الإنسان الذي يحلق بمنًى (بأسًا)؛ لأنَّه طاهر، فجاز (أَن) بفتح الهمزة (يتخذ) بدل من الضمير المجرور في (به)؛ أي: لا يرى بأسًا باتخاذ؛ أي: بالاتخاذ (منها)؛ أي: من الشعور، وفي رواية: (منه)؛ أي: من الشعر (الخيوط والحبال) جمع خيط وحبل، والفرق بينهما بالرقة والغلظ، ولم يوجد في رواية لفظة (به)، وهو ظاهر، قال ابن بطال: أراد المؤلف بهذه الترجمة ردَّ قول الشافعي: إنَّ شعر الإنسان إذا فارق الإنسان؛ نجس، وإذا وقع في الماء؛ نجَّسه، وإذا وقع على المصلي؛ بطلت صلاته، وإذا كان في الذياد؛ نجسه؛ لأنَّه لو كان نجسًا كما قال؛ لما جاز اتخاذه خيوطًا وحبالًا.

ومذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: أنه طاهر، وكذا شعر الميتة، والأجزاء الصلبة التي لا دم فيها؛ كالقرن، والعظم، والسن، والحافر، والظلف، والخف، والوبر، والصوف، والعصب، والريش، والإنفحة الصلبة، كذا قاله في «البدائع»، وكذا من الآدمي على الأصح كما في «المحيط»، و «التحفة»، وفي «الخانية» : أنَّه الصحيح عندنا، وقد وافقنا على صوفها، ووبرها، وشعرها، وريشها مالك وأحمد، وإسحاق، والمزني، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، وحماد، وداود في المعظم منها، وخالفنا الشافعي، فقال أبو الطيب: الشعر، والصوف، والوبر، والعظم، والقرن، والظلف؛ تحلها الحياة، وتنجس بالموت، هذا هو المذهب وهو الذي رواه المزني، والبويطي، والربيع، وحرملة عن الشافعي وصححه جماعة منهم، وروى إبراهيم البكري، عن المزني، عن الشافعي: أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي؛ لأنَّه تابع للجلد يطهر بطهارته، وينجس بنجاسته، والصحيح عندهم الأول، وقال الماوردي ونقله الربيع الجيزي عن الشافعي: أن شعر النبي الأعظم عليه السلام الصحيح القطع بطهارته.

قلت: يشير بذلك إلى أن لهم قولًا بغير ذلك، وأنه الأصح؛ لأنَّ مقابل الصحيح الأصح، ونعوذ بالله تعالى من هذا القول المفضي إلى الجرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموصل (٥) إلى الأذى له عليه السلام المدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} ... ؛ الآية [الأحزاب: ٥٧] وقد اخترق بعض الشافعية وكاد أن يخرج عن دائرة الإسلام حيث صرح، وقال: وفي شعر النبي وجهان، قلت: وحاشا شعر النبي الأعظم عليه السلام


(١) في الأصل: (بعدها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (وهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (لأن).
(٤) في الأصل: (في)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٥) في الأصل: (الموصلي)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>