للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من ذلك، وكيف قال هذا وإنَّه لا يقوله جاهل ألبتة فضلًا عن منسوب إلى العلم، وإنَّه قد صمت أذنه عن قول العلماء الأعلام: إن فضلاته عليه السلام طاهرة فضلًا عن شعره الشريف.

ثم قال الماوردي وغيره: وإنما قسم النبي عليه السلام شعره بين أصحابه للتبرك ولا يتوقف التبرك على كونه طاهرًا. قلت: هذا أشنع وأقبح من ذلك؛ فإنَّ النجاسة تنافي التبرك، وهل رأيت أحدًا يتبرك بشيء نجس؟ فهذا جرأة وافتراء على رسول الله عليه السلام، وربما يحرم الشفاعة بهذا الكلام القبيح الذي لا يقوله عاقل، ولا يصدر من غبي جاهل، وقال كثير من الشافعية نحو قول الماوردي، ولو ذكرنا كلامهم؛ لطال المقام، لكن {لَاتَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: ١٠١].

ثم قالوا: لأنَّ القدر الذي أخذ كان يسيرًا معفوًّا عنه، قلت: وهذا أيضًا أقبح من الكل، وأعظم جرأة وافتراء، وغرضهم من ذلك تعنتهم وتعصبهم لمذهبهم في تنجس شعر بني آدم، فلما أورد عليهم شعر النبي الأعظم عليه السلام؛ أوَّلوا هذه التأويلات الفاسدة، وقالوا: هذه الأقوال القبيحة الخاسرة الذي يردها الطبع السليم، وينفر عنها من اهتدى إلى الصراط المستقيم.

وقال بعض شراح «البخاري» : وفي دمه عليه السلام وجهان، والأليق الطهارة، وذكر القاضي حسين في العذرة وجهين، وأنكر بعضهم على الغزالي حكايتهما فيها، وزعم نجاستها بالاتفاق.

قلت: وما للغزالي من هفوات حتى في تعلقات النبي الأعظم عليه السلام، كيف وقد وردت أحاديث كثيرة أنَّ جماعة شربوا دمه عليه السلام؛ منهم: أبو طيبة الحجام، وغلام من قريش حجمه عليه السلام، وعبد الله بن الزبير شرب دمه عليه السلام، رواه البزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، وأبو نعيم، وغيرهم، ويروى عن علي رضي الله عنه: (أنه شرب دمه عليه السلام)، وروي أيضًا: (أن أم أيمن شربت بوله عليه السلام)، رواه الحاكم، والدارقطني، والطبراني، وأبو نعيم، وأخرج الطبراني في «الأوسط» رواية سلمى امرأة أبي رافع: أنها شربت بعض ما غسل النبي عليه السلام، فقال لها: «حرم الله بدنك على النار»، فقد عميت أبصارهم، وصممت آذانهم عن هذه الأحاديث وغيرها الواردة في هذا الشأن، ولا يقول قولهم إلا شيطان.

وقال بعض الشافعية: والحقُّ أنَّ حكم النبي عليه السلام كحكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفية إلَّا فيما يخص بدليل، وأجاب في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: ويلزم من هذا أن يكون الناس مساويين (١) للنبي الأعظم عليه السلام، ولا يقول بذلك إلا جاهل غبي، ومكابر عتي (٢)، وأين مراتبه من مراتب الناس؟! ولا يلزم أن يكون دليل الخصوص بالفعل دائمًا، والفعل له مدخل في غير النبي عليه السلام من غيره في مثل هذه الأشياء، وأنا أعتقد أنه لا يقاس عليه غيره، وإن قالوا غير ذلك، فأذني عنه صماء) انتهى.

وتعقَّبه العجلوني حيث قال: (ولا يلزم من مساواة الناس له عليه السلام في هذا الحكم أن تكون مراتبهم مثل مرتبته عليه السلام، ألا ترى أنَّهم ساووه في غالب الأحكام) انتهى.

قلت: وهذه محاولة ومكابرة عن الحق؛ لأنَّ قوله: (حكم النبي عليه السلام كحكم جميع المكلفين) إدخال له عليه السلام تحت الحكم وهو مشرع الأحكام، فيلزم التنقيص في مرتبته عليه السلام، وهو عليه السلام أفضل الأنبياء والمرسلين والخلق أجمعين، ومساواتهم له عليه السلام في غالب الأحكام من حيث إنَّه شرعَها لهم، فيلزمهم اتِّباعه فيما شرع، فلا يكون حكمه كحكمهم في الأحكام؛ لأنَّ الله تعالى جعله منبع الشريعة المطهرة، وكيف يقال: إنَّه مثلهم ومساوٍ لهم ولا يقوله إلَّا متعنت ومكابر، وجاهل متجاسر، ومن هنا ظهر أن تكلم الشافعية على الحنفية لا يلتفت إليه؛ لأنَّهم قد تكلموا على النبي الأعظم عليه السلام بما يحط في مرتبته الشريفة، وينقص في مقامه المنيف، فاعلم ذلك، والله الموفق للصواب.

(وسؤرِ الكلاب) بالجرِّ عطفًا على قوله: (باب الماء)؛ والتقدير: وباب سؤر الكلاب؛ يعني: ما حكمه؟ وفي رواية: (وسؤر الكلب) بالإفراد، والسؤر؛ بالهمز: بقية الماء الذي يبقيها الشارب، وقال ثعلب: هو ما بقي من الشراب وغيره، وقال ابن درستويه: والعامة لا تهمزه، وترك الهمزة ليس بخطأ، ولكن الهمز أفصح وأعرف.

(وممرِّها في المسجد) وزاد في رواية: (وأكلِها)؛ بالجر من إضافة المصدر إلى فاعله؛ أي: وباب حكم ما تأكله هل ينجس أم لا؟ وهو مأخوذ من ولوغها، فإنِّها إذا لم تنجِّس الماء بولوغها؛ فلا تنجِّس ما تأكل منه، قال ابن الملقِّن: وقصد المؤلف بذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره، وقال الإسماعيلي: أراه نحا ذلك بما ذكره من الأخبار وهي صحيحة، إلا أن في الاستدلال بها على طهارة الكلب نظرًا) انتهى، ووجه النظر ما قاله ابن الملقن أنَّ الأمر بالغسل من ولوغه ظاهر في أنَّه لنجاسته لا للتعبُّد، وأما غرق الماء بالخف؛ فليس فيه أنَّ الكلب شربه منه، وعلى تسليمه، فشرع من قبلنا شرع لنا إذا قصَّه الله ورسوله علينا من غير نكير، وهنا ليس كذلك بل هو منسوخ في شرعنا، ولا يلزم من إقبال الكلاب في المسجد وإدبارها طهارتها، لكن ذلك مظنة بولها، ولم يعلم أنه أمر بغسله كما أمر بغسل بول الأعرابي، ويؤيِّده ما سيأتي: (وأنها كانت تبول فيه)، وابن وهب يرى طهارة بولها، وأمَّا حديث عدي؛ فهو مسوقٌ؛ لأنَّ قتله ذكاة لا لطهارته؛ فافهم.

(وقال) محمد بن مسلم ابن شهاب (الزهري) فيما رواه أبو الوليد بن مسلم في «مصنفه» عن الأوزاعي وغيره، وأخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» من طريقه بسند صحيح: (إذا ولغ الكلب)؛ بالغين المعجمة، وهو في الكلاب والسباع كلِّها؛ وهو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كلِّ مائع فيحركه فيه تحريكًا قليلًا أو كثيرًا، وقيل: إن كان غير مائع؛ يقال: لعقه ولحسه، وقيل: إن كان الماء فارغًا؛ يقال: لحسه، وإن كان فيه شيء؛ يقال: ولغ، كذا في «المغرب»، وسقط في رواية لفظ: (الكلب)، ولكن القرينة تدل عليه؛ لأنَّ ضمير (ولغ) عائد إليه سواء كان معلَّمًا أو غيره (في إناء) ولأبي ذر: (في الإناء) (ليس له) أي: لمريد الوضوء (وَضوءٌ)؛ بفتح الواو؛ أي: الماء الذي يتوضأ به (غيرَُه)؛ بالرفع أو النصب، والجملة المنفية حال، وسقط في رواية؛ أي: غير ذلك الإناء الذي ولغ فيه (يتوضأ به) جواب الشرط، وهو (إذا)، وفي رواية: (حتى يتوضأ بها)؛ أي: ببقية الماء، وفي رواية: (فيها)، فيؤوَّل الإناء بالمطهرة أو الإداوة؛ فالمعنى: يتوضأ بالماء الذي فيها، كذا في «عمدة القاري».

(قال سفيان)؛ أي: الثوري؛ لأنَّ الوليد بن مسلم لمَّا روى هذا الأثر الذي رواه الزهري؛ ذكر عقيبه بقوله: (فذكرت ذلك لسفيان الثوري فقال: والله) (هذا)؛ أي: الحكم بالتوضؤ به (الفقه بعينه) المستفاد من القرآن؛ (لقول الله عزَّ وجلَّ) وفي رواية: (بقول الله تعالى) : ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}) وفي رواية القابسي عن المروزي: (فَإن لَم تَجدُوا)، وهو غلط؛ لمخالفته للتلاوة ولم يوجد في شيء من القراءات بعد التبع الكثير، ولم يوافق القابسي على هذه الرواية أحد إلا ما حكاه أبو نعيم، قال ابن حجر: ولعلَّه رواه بالمعنى؛ بناء على تجويزه ذلك، وهو خلاف الصواب؛ لأنَّ القراءة بالرواية لا بالرأي على الصحيح، قاله العجلوني.


(١) في الأصل: (مسايا)، وهو تحريف.
(٢) في الأصل: (عبي)، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>