للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

يفهم من الثاني لا من الأول؛ لاختلاف الألفاظ بينهما، وكل لفظ يدل على استنباط على حدة لا تعلق له بغيره لا كما زعمه ابن حجر، فإنه غير مصيب، كما لا يخفى.

وقوله: (وإن كان تابعًا...) إلخ ليس يفهم منه أنه تابعه؛ لأنَّه لم يتعرض له بشيء، بل ذكر هذا من فهمه وحذاقته؛ فليس فيه ما يدل على أنه تابع له.

وقوله: (وأما هنا...) إلخ؛ فإنه لما لم يكن في حديث الباب هنا من كونه ماشاه، بل فيه: (لقيه) وهو لا يدل على المماشاة؛ لأنَّ اللقي الاجتماع بالشخص فقط من غير مماشاة ولا غيرها، كما دل على ذلك كلام أهل اللغة، فاعتراضه عليه متوجه صواب، كما لا يخفى على أولي الألباب.

وقوله: (والظاهر...) إلخ ممنوع؛ فإن حق الظاهر أن يظهر من لفظ الحديث لا من كلام هذا القائل؛ لأنَّه يقرر ويتكلم على حسب مراده وهو غير مصيب؛ فلا يعتمد عليه؛ لوقوع الخلل فيه على أنه لا يفهم هذا الظاهر من كلامه، بل إنه لما اضمحل كلامه؛ استند إلى رواية الباب الآتي وهي لا تفيده شيئًا؛ لأنَّ بينهما فرقًا بيِّنًا فهذا الظاهر غير ظاهر، بل مبني على ما فهمه وهو فهم سقيم، على أن الحق الذي هو أحق أن يتبع: أن ما ذكر في هذا الباب قصة غير القصة التي ذكرت في الباب الآتي، فهما قصتان مختلفتان رجالًا، ومتنًا، وألفاظًا، وغير ذلك.

وقوله: (وأنه هنا ماشاه أيضًا...) إلخ ممنوع؛ فإنه لم يذكر في الحديث هنا أنه ماشاه لما لقيه، ولا انخنس عنه حين قعد، فإن ذلك كله غير مذكور هنا ولا يفهم منه لا قولًا، ولا فعلًا، ولا إشارةً، ولا دلالةً، وغاية: ما فيه أنه لقيه في الطريق وانخنس عنه فيه، وهذا ظاهر في عدم دلالته على ما زعمه هذا القائل، وليس فيه أنه قعد مستخفيًا، ولا ما يدل على ما زعمه هذا الزاعم، فكيف يثبت شيئًا في الحديث وهو غير مذكور فيه؟ وما هو إلا افتراء وجراءة، وكيف يجعلهما قصة واحدة؟ وما هي إلا دعوى باطلة لا دليل عليها، فقد زاد في الطنبور نغمة هذا القائل وحذا حذو ابن حجر في التعصب، والتعنت، والمكابرة الظاهرة، والعناد، ومن دق الباب؛ سمع الجواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.

وزعم ابن حجر أنه بوَّب على استحباب استئذان التابع ابنُ حبان، وفيه الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال؛ أن ماء البئر ينجس.

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا الرد مردود حينئذٍ؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه أصلًا، والحديث يدل بعبارته أن الجنب ليس بنجس في ذاته، ولم يتعرض إلى طهارة غسالته إذا نوى الاغتسال) انتهى.

فكيف قال ابن حجر ما قال؟ ولا يلزم من تبويب ابن حبان أنه يستفاد من الحديث هنا؛ فانظر وتعجب من هذه المحاولة والمكابرة، حيث إنه يستدل من كتاب على كتاب آخر من غير تدبر ولا فهم، ودأبه الخلط والخبط، ومن دق الباب؛ سمع الجواب.

قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : (وفي الحديث: ائتلاف قلوب المؤمنين، ومواساة الفقراء، والتواضع لله تعالى، واتباع أمر الله تعالى؛ حيث قال جل ذكره: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: ٥٢]) انتهى.

واعترضه العجلوني فقال: ما قاله من ائتلاف قلوب المؤمنين والتواضع لله تعالى؛ مسلَّم؛ لقوله له: «أين كنت؟»، وأما قوله: (ومواساة الفقراء، واتباع أمر الله)؛ فأخذهما منه غير ظاهر؛ لأنَّه ليس فيه أنه أعطاه شيئًا واساه به، ولا أنه أتاه فلم يطرده، بل فيه أنه عاتبه على الذهاب، إلا أن يراد بالمواساة ولو في الآنة القول والتفقد وباتباع الله تعالى؛ إذ لازم للنهي المذكور) انتهى.

قلت: قوله: (مسلم؛ لقوله له: «أين كنت؟»)، وأيضًا لقوله: (لقيه)؛ ومعنى اللقي: الاجتماع، ومن لازم الاجتماع السلامُ، والتحية، وتطييب القلوب.

وقوله: (وأما قوله...) إلخ؛ فإنه مأخوذ من قوله: (لقيه)، ويلزم من اللقي -وهو الاجتماع- المواساة بالأقوال، ولا ريب أن السلام والسؤال عن الحال حال الاجتماع فيه مواساة ظاهرة، كما لا يخفى، وفيه أيضًا اتباع أمر الله عز وجل حيث إنه حين جاء إليه لم يطرده، بل فرح به وواساه بقوله: «أين كنت؟».

وقوله: (فأخذهما منه غير ظاهر) ممنوع؛ لأنَّ أخذهما ظاهر كما علمت وهو غير خفي على من له أدنى ذوق في العلم.

وقوله: (لأنَّه ليس فيه أنه أعطاه شيئًا...) إلخ ممنوع أيضًا؛ فإن المواساة كما تكون بالفعل تكون بالقول، بل القول أبلغ وأطيب للنفس، على أنه عليه السلام لم يكن يحب الدنيا ولا أصحابُه الكرام، بل كانوا مقبلين على الآخرة، فالمواساة بالقول عندهم وغيرهم ممن أقبل على الآخرة أولى، وأحسن، وأطيب للخواطر، وهذا القائل كان يتبع المشايخ الذين يفعلون التهاليل المنكرة التي لا تخلو عن دخول بيوت الأيتام، والقعود على ثيابهم، والشراب من مائهم، وأخذ الدراهم من أموالهم؛ فلهذا نبه بالمواساة بإعطاء شيء من الدنيا ولم يعلم أنها فانية وحبها رأس كل خطيئة.

وقوله: (ولا فيه أنه أتاه، فلم يطرده) ممنوع؛ فإن قوله في الحديث: (ثم جاء فقال: «أين كنت؟») دليل ظاهر على أنه أتاه فلم يطرده؛ لأنَّ المجيء هو الإتيان، كما لا يخفى على أهل البيان، وفيه الاتباع لأمر الله عز وجل كما في الآية، فكيف يقول هذا القائل: (ولا فيه...) إلخ وما هو إلا مكابرة ظاهرة وتعنت وعناد.

وقوله: (بل فيه أنه عاتبه على الذهاب) ممنوع، بل فيه أنه واساه بالقول وهو أبلغ من الفعل في قوله: (لقيه)، وفي قوله: (ثم جاء، فلم يطرده)، وغير ذلك.

وقوله: (إلا أن يراد...) إلخ هذه مناقضة لكلامه؛ حيث نفى في أول كلامه، ثم أثبت هنا المواساة بالقول والتفقد والاتباع لله عز وجل في الآية؛ لأنَّها نهي، فالنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فعل كما أمره ربه عز وجل، مع أنه على خلق عظيم، لطيف بأصحابه، رقيق القلب بهم، رحيم بهم صلَّى الله عليه وسلَّم، اللهم؛ عطف قلبه علينا، واحشرنا تحت لوائه يا أرحم الراحمين.

(٢٤) [باب الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين ويجوز تركه وإضافته إلى ما بعده، لكن يحتاج حينئذٍ إلى أن يقدر الجواب؛ نحو أن يقول له ذلك أو يجوز ذلك ونحوهما، وعند الانفصال لا يحتاج إلى ذلك، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»

قلت: والوجهان مبنيان على الرفع أو الجر في قوله: (الجنب) ومثله الحائض، والنفساء (يخرج)؛ أي: من بيته (ويمشي)؛ بالواو عطف على قوله: (يخرج)، وفي بعض النسخ: (يخرج يمشي)؛ بدون واو العطف، فإن صحت هذه الرواية؛ يكون (يمشي) في موضع النصب على الحال المقدرة، كذا قاله في «عمدة القاري».

وزعم العجلوني فقال: (المناسب جعله خبر الجنب بعد خبر، على حد زيد عالم تاجر) انتهى.

قلت: وهو ممنوع؛ فإن المناسب للمقام هو الأول وهو الأظهر؛ لأنَّ الخروج والمشي صفتان كل منهما غير لازمة، بخلاف زيد عالم تاجر، فإن العلم والتجارة كل منهما صفة لازمة له، فما قاله في «عمدة القاري»؛ هو الحق، وما زعمه العجلوني؛ باطل؛ فافهم.

(في السوق وغيره)؛ بالجر عطف على قوله: (في السوق)، والضمير فيه عائد إليه؛ والمراد به: البيت، وكذا الصحراء والبستان؛ يعني: يخرج من بيته إلى السوق إلى الصحراء إلى البستان، وغير ذلك، وزعم ابن حجر أنه يحتمل الرفع عطفًا على (يخرج) من جهة المعنى.

قال صاحب «عمدة القاري» : أخذ كلامه هذا القائل من كلام الكرماني؛ فإنه قال: يحتمل رفعه بأن يراد نحو: يأكل وينام عطف على (يخرج) من جهة المعنى، انتهى.

قال: (قلت: وفيه تعسف لا يخفى) انتهى كلامه.

وتبعه البرماوي حيث قال: (وفيه تكلفٌ بلا ضرورة) انتهى.

وزعم العجلوني أن الظاهر أن الكرماني -وتبعه ابن حجر- أراد أن (غيره) معطوف عطف مفردات على ما قبله؛ لأنَّ المراد بـ (غيره) : يأكل، وينام، ونحو ذلك، والضمير على الرفع عائد على (يخرج ويمشي)؛ فحقه التثنية، لكنه أفرده؛ نظرًا لتأويلهما بالمذكور، ويجوز رفعه على أنه مبتدأ وضميره عائد على الجنب، والمراد بـ (غيره) : الحائض

<<  <   >  >>