للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

في رواية الدارمي عن أبي نُعيم شيخ المؤلف فيه، ولفظه قال: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) (كراعٍ)؛ أي: مثله مثل راع، وفي رواية: (كراعي بالياء)، (يرعى) : جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل؛ للتنبيه بالشاهد على الغائب، أو أن تكون (مَن) موصولة لا شرطية مبتدأ، والخبر (كراع يرعى)، وحينئذٍ لا حذف، والتقدير: الذي وقع في الشبهات كراع يرعى مواشيه.

(حول الحمى)؛ بكسر الحاء المهملة وفتح الميم: المحمي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، والمراد: موضع الكلأ الذي مُنع منه الغير وتُوعِّد على من رعى فيه، (يوشك)؛ بكسر المعجمة؛ أي: يقرب، (أن يواقعه)؛ أي: يقع فيه، وعند ابن حبان: اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك؛ استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه؛ كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه.

(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام: حرف تنبيه أن الأمر كما تقدم، (وإن لكل ملِك)؛ بكسر اللام من ملوك العرب (حمى)؛ مكانًا مخصبًا حظره لرعي مواشيه وتوعَّد من رعى فيه بغير إذنه بالعقوبة، وسقط قوله: (ألا وإن) في رواية (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام، (إنَّ) وفي رواية: (وإن)، (حمى الله) تعالى، وفي رواية زيادة: (في أرضه)، (محارمه) وفي رواية: (معاصيه) بدل (محارمه)؛ أي: المعاصي التي حرمها؛ كالزنا ونحوه، فهو من باب التمثيل والتشبيه بالشاهد عن الغائب، فشبه المكلفَ بالراعي، والنفسَ بالبهيمة؛ بالأنعام، والمشبهات بما حول الحمى، والمحارم بالحمى، وتناول المشبهات بالرتع حول الحمى، ووجه التشبيه: حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك.

(ألا)؛ بفتح الهمزة وتخفيف اللام، إن الأمر كما ذكر، (وإن في الجسد مضغة) بالنصب اسم (إن) مؤخر؛ أي: قطعة من اللحم، وسميت بذلك؛ لأنها تُمضَغ في الفم لصغرها، أو لأنَّ أول نقطة تكون من النطفة، (إذا صلحت)؛ بفتح اللام وضمها، والفتح أفصح؛ أي: المضغة، (صلح الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها، وسقط لفظ (كله) في رواية، (وإذا فسدت)؛ أي: المضغة (فسد الجسد كله)؛ لأنَّه مركب عليها.

(ألا)؛ بالفتح والتخفيف، (وهي)؛ أي: المضغة (القلب)؛ أي: الفؤاد، وقيل: القلب أخص من الفؤاد، وإنما سمي به؛ لتقلبه في الأمور، وقيل: لأنَّه خالص ما في الإنسان، وخالص كل شيء قلبه، وأصله مصدر ثم نُقل وسمي به هذا العضو؛ لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:

ما سمِّي القلبُ إلَّا من تقلُّبه... فاحذرْ على القلبِ من قلبٍ وتحويلِ

قيل: إن القلب محل العقل، وهو قول بعض المتكلمين، والشافعية، والفلاسفة، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم: إن العقل في الدماغ، وهو قول جمهور المتكلمين والأطباء.

وقال الإمام النووي: ليس في الحديث دلالة على أن العقل في القلب، واستدل به أيضًا على أن من حلف لا يأكل لحمًا فأكل قلبًا؛ حنث، قلت: ولأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه يحنث، وإليه مالَ الصيدلاني المروزي، والأصح: أنه لا يحنث؛ لأنَّه لا يسمى لحمًا اهـ.

فعُلِم منه: أن بعض الشافعية قالوا: العقل في القلب، وبعضهم قالوا: إنه في الدماغ، وظاهر عبارة أئمتنا الأعلام: أن العقل مقره في القلب، وسلطانه ونوره وشعاعه في الدماغ، وبهذا يحصل التوفيق بين القولين؛ فليحفظ.

(٤٠) [باب أداء الخمس من الإيمان]

هذا (باب) بالتنوين (أداء الخُمُس)؛ بضم المعجمة والميم، (من الإيمان) مبتدأ وخبره؛ أي: من شعبه، ويجوز إضافة الباب لما بعده.

[حديث: مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى]

٥٣ - وبه قال: (حدثنا علي بن الجَعْد)؛ بفتح الجيم وسكون العين، أبو الحسن ابن عُبيد؛ بضم العين، الجوهري، الهاشمي، البغدادي، المتوفى فيها سنة ثلاثين ومئتين، (قال: أخبرنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (عن أبي جمرة)؛ بالجيم والراء، واسمه نصر بن عمران بالصاد المهملة، الضُّبَعي؛ بضم الضاد المعجمة، بعدها موحدة مفتوحة، بعدها عين مهملة، البصري المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة، والضُّبَعي: نسبة لبطن من عبد القيس.

(قال: كنت أقعد) بلفظ المضارع حكاية حالٍ ماضية؛ استحضارًا لتلك الصورة للحاضرين، (مع ابن عباس) رضي الله عنهما؛ أي: عنده زمن ولايته بالبصرة من قِبَل علي بن أبي طالب، (يُجلسني)؛ بضم أوله من غير فاء، مِن أجلس، وفي رواية: بالفاء؛ أي: يرفعني بعد أن أقعد.

(على سريره) عطف على (أقعد)؛ لأنَّ الجلوس على السرير بعد القعود، وروى المؤلف في (العلم) السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه: (كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس)، والترجمة: التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم، فقيل: كان يتكلم بالفارسية، وكان يترجم لابن عباس عن من تكلم بها، وفيه دليل على جواز الترجمة والعمل بها، وجواز المترجم الواحد؛ كما قاله القاضي.

قلت: قال أئمتنا الأعلام: والواحد يكفي للتزكية والرسالة والترجمة؛ لأنَّها خبر وليست بشهادة حقيقية، ولهذا لا يشترط لفظة الشهادة؛ فليحفظ.

(فقال: أقم)؛ أي: توطن (عندي)؛ لتساعدني بتبليغ كلامي إلى من خفي عليه من السائلين، (حتى) أن (أجعل لك سهمًا)؛ أي: نصيبًا (من مالي)، سبب الجعل الرؤيا التي رآها في العمرة؛ كما سيأتي في الحج، قال أبو جمرة: (فأقمت معه)؛ أي: عنده مدة (شهرين) بمكة، وإنما عبر بـ (مع) المقتضية للمصاحبة دون (عند) المقتضية لمطابقة (أقم عندي)؛ للمبالغة.

وفي رواية مسلم بعد قوله (وبين الناس) : (فأتت امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت: يا بن عباس: إنِّي انتبذت (١) في جرة خضراء نبيذًا حلوًا فأشرب منه فيقرقر بطني، قال: لا تشربْ منه وإن كان أحلى من العسل).

(ثم قال: إنَّوَفْد)؛ أي: جماعة (عبد القيس) أبو القبيلة، وهو ابن أَفْصَى؛ بهمزة مفتوحة، وفاء ساكنة، وصاد مهملة مفتوحة، ابن دُعْمي؛ بضم الدال المهملة، وسكون العين المهملة، وبياء النسبة، ابن جَديلة؛ بفتح الجيم، ابن أسد بن ربيعة بن نزار، كانوا ينزلون البحرين وحوالي القطيف، وكانوا أربعة عشر رجلًا بالأشج، ويُروى أنهم أربعون، فيحتمل أن يكون لهم وفادتان، أو أن الأشراف أربعة عشر والباقي تبع، وأسماؤهم وبيانهم موضح في «عمدة القاري» غاية الإيضاح.

(لما أتوا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح قبل خروجه من مكة، وكان سبب وفودهم كما في «عمدة القاري» إسلام منقذ بن حبان، وتعلمه الفاتحة وسورة اقرأ، وكتابته عليه السلام لجماعة عبد القيس كتابًا، فلما رحل إلى قومه؛ كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ وهو الأشج: إنِّي أنكرت فعل بعلي منذ قدم مِن يثرب؛ إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الجهة، يعني: الكعبة، فيحني ظهره مرة ويقع أخرى، فاجتمعا فتحادثا في (٢) ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، وقرأ عليهم الكتاب، وأسلموا وأجمعوا المسير إلى رسول الله عليه السلام، فلما قدموا؛ (قال) عليه السلام (مَن القوم؟ أو) قال (مَن الوفد؟) شك شعبة أو أبو جمرة، (قالوا) نحن (ربيعة)؛ أي: ابن نزار بن معَدِّ بن عدنان، وإنما قالوا: ربيعة؛ لأنَّ عبد القيس من أولاده، وعبر عن البعض بالكل؛ لأنَّهم بعض ربيعة، ويدل له ما في المؤلف في (الصلاة)، فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة.

(قال) عليه السلام: (مرحبًا بالقوم أو) قال (بالوفد)، وأول من قال: مرحبًا: سيف بن ذي يزن، وانتصابه على المصدرية بفعل مضمر؛ أي: صادفوا رُحبًا؛ بالضم؛ أي: سعة، حال كونهم (غير خزايا) جمع خزيان على القياس؛ أي: غير أذلاء أو غير مستحيين لقدومكم مبادرين دون حرب يوجب استحياءكم، و (غير) بالنصب حال، ويروى: بالخفض صفة لـ (القوم).

(ولا ندامى) جمع نادم على غير قياس، وإنما جُمع كذلك؛ اتباعًا لـ (خزايا) للمشاكلة والتحسين، وذكر القزاز: أن (ندمان) لغة في (نادم)، فجمعه المذكور على هذا قياس، (فقالوا)، وللأصيلي: (قالوا) : (يا رسول الله؛ إنا لا نستطيع أن نأتيك)؛ أي: الإتيان إليك، (إلا في الشهر الحرام) سُمي الشهر شهرًا؛ لشهرته وظهوره، وحرامًا؛ لحرمة القتال فيه عندهم، والمراد الجنس، فيشمل الأربعة الحُرُم، والمراد شهر رجب، كما صُرِّح به في رواية البيهقي.

وفي رواية: (إلا في شهر الحرام)، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع، والبصريون يمنعونها ويؤولون ذلك على حذف مضاف؛ أي: ومسجد الوقت الجامع، وشهر الوقت الحرام.

وقول ابن حجر: هذا من إضافة الشيء إلى نفسه، رده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز؛ كما عُرِف في موضعه؛ فليحفظ، وفي رواية: (إلا في أشهر الحُرُم)، تقديره: في أشهر الأوقات الحُرُم، و (الحُرُم)؛ بضمتين جمع حرام، وفي رواية: (إلا في كل شهر حرام).

(و) الحال (بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَرَ)؛ بضم الميم وفتح المعجمة، مخفوض بالمضاف بالفتحة؛ للعلمية والتأنيث، وهذا مع قولهم: (يا رسول الله)، يدل على تقدم إسلامهم على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق.

(فمرنا بأمرٍ فصْلٍ)؛ بالصاد المهملة وبالتنوين في الكلمتين على الوصفية، لا بالإضافة؛ أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى: المفصَّل المبين، وأصل (مرنا) : أأمرنا؛ بهمزتين؛ من أمر يأمر،


(١) في الأصل: (أنتبذ).
(٢) في الأصل من دون (في) والسياق يقتضيها.

<<  <   >  >>