للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

السوء يا أبا أيُّوب»، لزم الجهاد في حياة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم وبعده إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة اثنتين وخمسين، ودفن بها، وهي دار خلافة بني عثمان، وقبره هناك مشهور معظم، بنى عليه السلطان محمَّد الفاتح جامعًا عظيمًا، وجعل على مرقده الشريف قبة عظيمة، يزار ويتبرك به وهو مشهور باستجابة الدعاء وهو رضي الله عنه جدي وسندي وعمدتي وإليه أنتسب وشفيعي عند سيد العالمين، فنسبي متصل به، ولولا الإطالة؛ لذكرته، ونعم هذا الجد والسند، اللهم؛ احشرنا في زمرته تحت لواء سيد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم.

(أخبره: أنه سمع ذلك)؛ أي: الحكم المذكور؛ وهو غسل الذكر والوضوء دون الغسل فيمن جامع ولم ينزل (من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) فتذكير الإشارة بالاعتبار المذكور، قال الدارقطني: (فيه وهم؛ لأنَّ أبا أيُّوب لم يسمعه من رسول الله عليه السلام، وإنما سمعه من أُبي بن كعب، عن رسول الله عليه السلام)، قال ذلك هشام عن أبيه، عن أبي أيُّوب، عن أُبيِّ بن كعب.

ورده صاحب «عمدة القاري» بأن قوله: (لم يسمعه من رسول الله عليه السلام) نفي، وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيُّوب عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو إثبات، والإثبات يقدم على النفي، على أن أبا سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف أكبر قدرًا، وسنًّا، وعلمًا من هشام بن عروة، وحديث الإثبات رواه الدارمي، وابن ماجه.

فإن قلت: حكي عن أحمد أن حديث ابن خالد المذكور معلول؛ لأنَّه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث.

قلت: كونهم أفتوا بخلافه لا يقدح في صحة الحديث؛ لأنَّ كم من حديث منسوخ وهو صحيح، فلا منافاة بينهما، ألا ترى أُبيًّا رضي الله عنه كان يرى الماء من الماء؛ لظاهر الحديث، ثم أخبر عنه سهل بن سعد: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جعل الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمره بالغسل، وأما الذي يستنبط من حديث الباب أن الذي يجامع امرأته ولم ينزل منيه؛ لا يجب عليه الغسل وإنما يغسل ذكره ويتوضأ، وهذا منسوخ؛ لما بيناه، ومذهب الجمهور: هو أن إيجاب الغسل لا يتوقف على إنزال المني، بل متى غابت الحشفة في الفرج؛ وجب الغسل على الرجل والمرأة، ولهذا جاء في رواية أخرى في الصحيح: (وإن لم ينزل)، وقال أصحابنا: التقاء الختانين يوجب الغسل مع تواري الحشفة، أما نفس الملاقاة بين الفرجين من غير تواري؛ فلا يوجب الغسل وإنما يوجب الوضوء عند الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، وقال الإمام محمَّد: لا يوجبه أيضًا ما لم يظهر المذي، وقال في «المحيط» : لو أتى المرأة وهي بكر؛ فلا غسل ما لم ينزل؛ لأنَّ بقاء البكارة دليل عدم الإيلاج، ولكن إذا جومعت البكر فيما دون الفرج فحبلت؛ فعليهما الغسل؛ لوجود الإنزال، فإنه لا حبل بدونه، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

[حديث: يغسل ما مسَّ المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي]

٢٩٣ - وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى) هو ابن القطان، (عن هِشام) بكسر الهاء؛ هو ابن عروة (قال: أخبرني) بالإفراد (أَبي)؛ بفتح الهمزة، هو عروة بن الزبير بن العوام، وأشار بقوله: (أخبرني أبي)؛ لدفع ظن ظان أنه أُبيٌّ بضمِّ الهمزة، وهو أُبيُّ بن كعب لكونه في الإسناد؛ فليحفظ نبه عليه في «عمدة القاري» (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو أيُّوب)؛ هو خالد بن زيد الأنصاري النجاري الخزرجي جدي وأستاذي وسندي رضي الله عنه، (قال: أخبرني) بالإفراد (أُبيُّ)؛ بضمِّ الهمزة (بن كعب) رضي الله تعالى عنه (أنه قال)؛ أي: أبي: (يا رسول الله)، وفي الرواية الأولى أن أبا أيُّوب سمعه من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولا منافاة بينهما؛ لأنَّه لا مانع من كونه سمعه تارة من النبيِّ الأعظم عليه السلام، وتارة أخرى من أُبيِّ بن كعب، وذكره الواسطة تكون للتقوية أو لغرض آخر؛ لأنَّ الطريقين مختلفان في اللفظ والمعنى وإن توافقا في بعض الأحكام مع جواز سماعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومن أُبيِّ بن كعب كليهما، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (إذا جامع الرجل المرأة) وفي رواية: (امرأته)؛ أي: أو أمته؛ يعني: أفتنا يا رسول الله فيما إذا جامع الرجل امرأته، (فلم يُنْزل؟)؛ بضمِّ التحتية، وسكون النون؛ أي: لم ينزل منيه (قال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يَغْسل)؛ بفتح التحتية، وسكون الغين المعجمة؛ أي: الرجل المجامع (ما مس المرأة منه) متعلق بـ (يغسل) وضميره للرجل، أو بـ (مس)، وضميره عائد إلى (ما)، والمراد به: العضو، أو بيان لـ (ما) الموصولة أو الموصوفة، ومحلها النصب على أنها مفعول (يغسل)؛ أي: يغسل الرجل المذكور العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه.

وقال الكرماني: (فإن قلت: المقصود منه بيان ما أصابه من رطوبة فرج المرأة، فكيف يدل عليه وظاهر أن ما مس المرأة من يد أو رجل ونحوها لا يجب غسله؟ قلت: فيه إما إضمار أو كناية؛ لأنَّ تقديره: يغسل عضوًا مس فرج المرأة، أو هو من إطلاق اسم اللازم؛ وهو مس المرأة، وإرادة الملزوم؛ وهو إصابة رطوبة فرجها) انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أن كلًّا من العضو الذي مسته الرطوبة مأمور بغسله، وكذا الرطوبة، لكن ظاهر الحديث يدل على أنه العضو المعبر عنه بـ (ما)؛ لأنَّه الذي يمس المرأة، ويحتمل إرادة الرطوبة على حذف مضاف؛ أي: رطوبة ما مس المرأة، فالحديث قابل للأمرين معًا، وكل منهما يصح أن يقصد، لا أن المقصود هو الرطوبة لا غير، وغسل أحدهما يلزم منه غسل الآخر، وشمول الحديث لما ادَّعى الكرماني أنه ظاهر، غير ظاهر؛ فإن السؤال دال على أن ما يمس المرأة منه رطوبة الفرج، وكذا دعواه أن المقصود منه بيان ما أصاب من رطوبة فرج المرأة وإن كان ظاهرًا في أحدهما، انتهى.

قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ المأمور بغسله إنَّما هو العضو الذي مس فرج المرأة؛ لما عليه من الرطوبة الحاصلة من المذي منهما في الفرج، فيتلطخ العضو بذلك؛ فلهذا أمره بغسله وهذا ظاهر الحديث ودال عليه، لا ما قاله هذا القائل من أن كلًّا من العضو... إلخ؛ لأنَّ هذا لا يدل عليه ظاهر الحديث وفيه خبط وخلط، كما لا يخفى.

وقوله: (ويحتمل إرادة...) إلخ هذا الاحتمال غير ظاهر أيضًا؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه؛ لأنَّ قوله: (ما مس المرأة منه) صريح في أنه العضو الذي مس فرج المرأة؛ لتنجسه بالرطوبة المخالطة للمذي في الفرج، لا إرادة الرطوبة فقط؛ لأنَّ الحديث غير دال عليها ولم يشعر بها، كما لا يخفى، فقوله: (فالحديث قابل للأمرين...) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل على هذا وما هو إلا مصادمة للحديث، ولا يصح أن يقصد أحدهما دون الآخر؛ لأنَّ فائدة الأمر بالغسل إنَّما هو لأجل ما على العضو مما ذكرنا، فهما أمران متلازمان لا يصح قصد أحدهما بدون الآخر.

وقوله: (وشمول الحديث...) إلخ غير ظاهر؛ لأنَّ السؤال دالٌّ على أن ما يمس المرأة منه العضو الذي مسها لا الرطوبة فقط، فكلام الكرماني ظاهر، كما لا يخفى.

وقوله: (وكذا دعواه...) إلخ، فإنه ظاهر أيضًا؛ لأنَّ المقصود بيان العضو الذي مس فرج المرأة بغمسه رطوبة فرجها المخلوطة بالمذي الموجود منهما، ولا ريب أن ظهور المذي ناقض للوضوء؛ فأمره بالوضوء، وكل ناقض نجس، فالمذي نجس وقد اختلط برطوبة الفرج، فلهذا أمره بغسل ذكره، ويدل على هذا: ما تقدم من الأحاديث التي صرحت بأنه يغسل ذكره، فهذا هو العضو الذي مس المرأة من الرجل، وهذا القائل داء به التعصب والتشديد ولا جرم، فإن كل من دق الباب سمع الجواب، والله ولي الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم، والله أعلم.

وفي يوم السادس عشر رجب سنة سبع وسبعين ومئتين وألف نزل ثلج ومطر فعم الأسطحة ودلفت ووقع برد وشرد ونعوذ بالله من غضبه، وسخطه، والنار، ونسأله رضاه والجنة يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى

<<  <   >  >>