للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

آله وصحبه.

(ثم يتوضأ)؛ أي: وضوءه للصلاة، كما زاده عبد الرزاق، عن الثوري، عن هشام، وهو صريح بتأخير الوضوء عن غسل ما يصيبه منها، كذا في «عمدة القاري» (ويصلي)؛ أي: ما كتب له من فرض أو نفل، وهذا تصريح في الدلالة على ترك الغسل من الحديث الذي قبله، (قال أبو عبد الله) فاعل (قال) محذوف وهو الراوي عن البخاري، و (أبو عبد الله) كنية البخاري، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر، وزعم العجلوني أن القائل البخاري نفسه لكن فيه تجريد، انتهى.

قلت: ليس كما قال، بل هو قول الراوي عن المؤلف وهو الأظهر، ولا حاجة لحمله على التجريد؛ لأنَّه خلاف الظاهر المتبادر؛ فافهم.

وقال الكرماني: (ووقع: «قال أبو عبد الله...» إلخ بعد حديث: «إذا جلس بين شعبها»، وذلك أولى) انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أن ذِكْره هنا أولى؛ لأنَّه حينئذٍ تظهر المفاضلة لذكر الشيئين بخلاف ما لو قدمه؛ فافهم انتهى؛ فتأمل.

ومقول القول قوله: (الغُسل)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وزعم العجلوني: أن في «الفرع» بفتحها.

قلت: والمشهور الأول؛ أي: الاغتسال لجميع الجسد من الجماع بغير إنزال المذكور في أحاديث كثيرة منها ما سبق في باب (إذا التقى الختانان).

(أحوط)؛ أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين من الاكتفاء بغسل الذكر والوضوء المذكورين في أحاديث هذا الباب المروية عمن تقدم من الصحابة، وعلى هذا؛ ينبغي أن يحمل ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي حتى أغتسل؛ أي: من الجماع من أجل اختلاف الناس للأخذ (١) بالعروة الوثقى.

قلت: لأنَّ العبادة المتفق على صحتها خير من المختلف في صحتها، كما لا يخفى، ولهذا ينبغي للإمام أن يحتاط في وضوئه وصلاته، ويفعل ما أجمع عليه الأئمَّة الأعلام؛ لتكون عبادته موافقة لهم، ومجمعًا (٢) على صحتها لا ما يفعله بعض المتعصبين من الشافعية الذين يظنون أنفسهم من المتورعين، ويحتاط على مذهب إمامه ويفعل ما هو مخل أو مفسد في مذهب غير إمامه من الأئمَّة الكبار، فإن هذا ليس من الاحتياط في شيء، وإنما هو تعصب، وشدة في أمر الدين، ومخالفة لسيد المرسلين القائل: «بعثت بالدين الحنيفية السمحة»؛ فافهم ذلك، ولا تكن ممن غلب جهله على علمه، أو جهله على عقله أو دينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(وذلك)؛ باللام، وفي بعض النسخ: (وذاك) بدونها، والإشارة إلى الحديث الدال على لزوم الغسل لجميع الجسد (الأخير)؛ بمثناة تحتية من غير مد على وزن (فعيل) هو رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (الآخِر)؛ بالمد بغير مثناة تحتية، وكسر الخاء المعجمة، وعليها؛ فالمعنى: وذاك المذكور في العبارة لذكره في الباب الثاني، وقال ابن التين: (ضبطناه بفتح الخاء)؛ أي الحديث من فعل الشارع عليه السلام المغاير الدال على عدم لزوم الغسل، وقال في «عمدة القاري» : (وأشار بقوله: «وذلك الأخير» إلى أن هذا الحديث غير منسوخ؛ أي: آخر الأمرين من الشارع) انتهى؛ أي: بل هو ناسخ لما قبله؛ فتأمل، (إنما بيَّنا) وللأَصيلي: (بيناه)؛ بالهاء، ولابن عساكر بالواو، لكن الأنسب حذفها؛ لأنَّ الجملة خبر (وذلك الأخير) تابع له؛ (لاختلافهم) ولكريمة: (اختلافهم)، وعلى الأولى؛ فهو متعلق بـ (بيَّنا) على أنه علة له؛ أي: ذكرنا الحديث الذي يدل على عدم لزوم الغسل في هذه الحالة؛ لنبين اختلاف الصحابة في الوجوب وعدمه، أو اختلاف المحدثين في صحته وعدمه، لا لأنا نقول به ونرتضيه، ويؤيد هذا الحمل ما في نسخة الصغاني: إنما بيَّنا الحديث الآخر؛ لاختلافهم والماء أنقى والظاهر أن معنى قول المؤلف: (وذلك الأخير) الإشارة للحديث الدال على لزوم الغسل، ومعنى كونه الأخير: أنه آخر الأمرين من فعل الشارع فهو ناسخ لما أفتى به عثمان ومن ذكر من الصحابة، فـ (ذلك) مبتدأ و (الأخير) خبره، ومثله على كسر الخاء بلا ياء، وأما على فتحها؛ فهو بظاهره غير مفيد؛ لأنَّه تابع لذاك، فإن قُدِّر له خبر نحو هو المعول عليه كان مفيدًا صحيحًا ويكون قوله: (إنما بينا؛ لاختلافهم) على هذه الوجوه مستأنفًا، وضمير (بيناه) الموجود أو المقدر راجع إلى ما تقدم من حديث زيد بن خالد، وعلى هذا؛ فيكون كلام المؤلف موافقًا لما عليه الإجماع من وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل، وليس في هذا ميل لمذهب داود الظاهري وإن نقله البرماوي عن السفاقسي حيث قال: وقال السفاقسي: (رويناه بفتح الخاء)، وقيل: إنه الوجه، وقال في قوله: (إنما بيناه؛ لاختلافهم) : (ميل لمذهب داود، والجمهور على أنها منسوخة).

قلت: (إنما يكون ميلًا (٣) لمذهب داود إذا فتحت الخاء من «آخَر»، أمَّا بالكسر؛ فيكون جزمًا بالنسخ) انتهى، ولا يتوجه عليه أيضًا اعتراض ابن العربي حيث قال: قد روى جماعة من الصحابة المنع، ثم رجعوا حتى رُوِيَ عن عمر أنه قال: من خالف في ذلك؛ جعلته نكالًا، وانعقد الإجماع على ذلك، ولا يعبأ بخلاف داود فيه، فإنه لولا خلافه ما عرف، وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري في ذلك، وحكمه: بأن الغسل أحوط وهو أحد علماء الدين، والعجب منه أنه يساوي بين حديث عائشة في وجوب الغسل بالتقاء الختانين وبين حديث عثمان وأُبيِّ بن كعب إلا بالإنزال، وحديث عثمان ضعيف، وحديث أُبيِّ بن كعب التعلق به ضعيف؛ لأنَّه قد صح رجوعه عما روى لما سمع وعلم ما هو أقوى منه، ثم قال: يحتمل أن قول البخاري: (الغسل أحوط)؛ يعني: في الدين وهو باب مشهور في الأصول وهو الأشبه بإمامة الرجل وعلمه.

قال ابن حجر: (هذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث بغير هذه المسألة)،

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: من ترجمته يفهم جواز ترك الغسل؛ لأنَّه اقتصر على غسل ما يصيب الرجل من المرأة، إنَّما هو الجواب، والغسل غير واجب، ولكنه يستحب؛ للاحتياط) انتهى.

وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» : (بأن هذا إنَّما يفهم من جواب السؤال، وأما غسل الذكر وهو المترجم به؛ فمقصود من يترجم به أنه مشروع أعم من أن يكون غسل جميع البدن واجبًا أم لا، وهذا على رأي من لا يرى اندراج إزالة النجاسة في غسل جميع الجسد، بل يشترط لها غسلًا آخر) انتهى.

قلت: وهذا فاسد ظاهر الفساد؛ لأنَّ ما ترجم به المؤلف من غسل ما يصيب فرج المرأة بيان على أن ترك الغسل جائز، والجائز غير واجب، فبقي على الاستحباب؛ للاحتياط، وهذا ظاهر.

وقوله: (وأما غسل الذكر...) إلخ ممنوع؛ لأنَّ غسل الذكر مشروع في الاستنجاء؛ فلا حاجة لبيانه هنا، وإنما ترجم به؛ للإشارة إلى أن الجماع تارة يكون واجبًا وهو ما إذا أنزل، وتارة يكون مستحبًّا وهو ما إذا لم ينزل؛ ولأجل اختلاف الناس في ذلك ترجم بما يصيب المرأة وإصابتها أعم من [أن] يكون واجبًا أو مستحبًّا، وهذا مفهوم ضرورة من الترجمة؛ فافهم، والله أعلم.

واعترض ابن حجر على ابن العربي في نفيه الخلاف، فزعم أن الخلاف مشهور في الصحابة والتابعين، يثبت عن جماعة منهم ومن التابعين، انتهى.

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: لقائل أن يقول: انعقد الإجماع عليه، فارتفع الخلاف)؛ بيانه: ما رواه الحافظ الطحاوي: حدثنا روح بن الفرج قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكير قال: حدثني الليث قال: حدثني معمر بن أبي حُيَيَّة؛ بضمِّ الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية المكررة، فهي حيية بنت مرَّة بن عمرو بن عبد الله بن شعيب، ومعمر هذا يروي عن عبد الله بن عدي بن الجبار قال: تذاكر أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال


(١) في الأصل: (لأخذ)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (مجمع)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (ميل)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>