للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

إمام الشارحين، ثم قال: (وفي الحديث دليل على أنَّ الحائض ليست بنجسة؛ لأنَّها لو كانت نجسة؛ لما وقع ثوبه عليه السلام على ميمونة وهو يصلي، وكذلك النفساء) انتهى.

قلت: يعني: أنَّه عليه السلام لم يأمرها بالتأخر عنه وأقرَّها على ذلك، وفيه دليل: على أن الحائض إذا قربت من المصلِّي؛ لا يضر ذلك صلاته، وفيه جواز ترك الحائض الصَّلاة، وجواز الافتراش بحذاء المصلي، وجواز الصَّلاة على الشيء المتخذ من سعف النخل سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، بل هذا أقرب إلى التواضع والمسكنة، بخلاف صلاة المتكبرين على سجاجيد مثمنة مختلفة الألوان والقماش، ومنهم من ينسج له سجادة من حرير، والصَّلاة عليها مكروهة وإن كان دوس الحرير جائزًا؛ لأنَّ فيه زيادة كبر وطغيان، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري».

قلت: وقال أئمتنا الأعلام: والأفضل الصَّلاة على الأرض، ثم على ما تنبته الأرض، وإنَّما يصلي على السجادة إذا كانت الأرض حارة أو باردة، فما يفعله المتعصبون من الشافعية من حمل السجادة إلى المسجد يمرون بها في الأسواق، وهي على أكتافهم حتى يأتون المسجد فيفرشوها؛ لأجل الصَّلاة، وتارة يقعدون، وتارة يذهبون للوضوء؛ غير مطلوب، بل هو مذموم شرعًا؛ لأنَّ فيه إظهار الكبر والعجب مع ما فيه من التعصب البارد والوسوسة والرياء والسمعة، وكل ذلك خارج عن الشرع، وأيضًا يمنعون الناس من الصَّلاة موضع السجادة، والله تعالى الموفق بمنه وكرمه، آمين.

((٧)) [كتاب التيمم]

(بسم الله الرحمن الرحيم)

هذا (كتاب) في بيان أحكام (التيمُّم) كذا في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر: البسملة مؤخرة عن الكتاب، والأول أولى للحديث الوارد فيه، وأمَّا الثاني؛ فوجهه أن الكتب التي فيها التراجم مثل السور حتى يقال سورة كذا، والبسملة تذكر بعدها على رأس الأحاديث كما تذكر على رؤوس الآيات، ويستفتح بها.

ووجه المناسبة بين هذا الكتاب والكتاب الذي قبله أحكام الوضوء والغسل بالماء، والمذكور هنا التيمم وهو خلف عن الماء؛ فيذكر الأصل أولًا ثم يذكر الخلف بعده، واقتداء بالكتاب؛ لأنَّه تعالى ابتدأ أولًا بالوضوء؛ لأنَّه أعمُّ، ثم بالغسل؛ لأنَّه أندر، ثم بالتيمُّم؛ لأنَّه خلف، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ..}؛ الآية [المائدة: ٦].

و (كتاب) مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هذا كتاب التيمم، والإضافة فيه بمعنى: في؛ أي: هذا كتاب في بيان أحكام التيمم، ويجوز نصب (كتاب) بعامل مقدر؛ تقديره: خذ، أو هاك، أو اقرأ كتاب (التيمم)، والأصل فيه: الكتاب العزيز؛ وهو الآية المذكورة، والسنة؛ وهي أحاديث الباب وغيره، والإجماع على جوازه للمحدث، وفي الجنابة أيضًا، وزعم ابن حزم أنَّه خالف فيه عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والنخعي، والأسود) انتهى.

قلت: وهو غير صحيح؛ فإنَّه قد ثبت رجوعهم عن هذا كما نقله الثقات، وذكره إمام الشارحين، فلا اعتداد بكلام ابن حزم؛ لأنَّه مشهور بالتعصب والنقول الشاذة؛ فافهم.

والتيمم من خصائص هذه الأمَّة فلم يكن مشروعًا لغيرها، وإنما شرع رخصة لنا؛ فهو فضيلة خصت به هذه الأمة دون غيرها من الأمم، ويدل لذلك قوله عليه السلام في هذا الكتاب: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وقيل: إنَّه عزيمة، وفرض سنة ستٍّ أو خمس، كما سيأتي، و (التيمُّم) مصدر (تيمم يتيمم تيممًا) من باب (افتعل)، وأصله من الأمِّ؛ وهو القصد، تقول: أمَّه يؤمُّه أمًّا؛ إذا قصده، وذكر في «الواعي» : (يقال: أمَّ وتأمَّم ويمَّم وتيمَّم بمعنى واحد، وإنما كان أصله في ذلك؛ لأنَّه يقصد التراب فيتمسح به)، وفي «الجامع» : (عن الخليل: يجرى مجرى التوضؤ، تقول: تيمَّم أطيب ما عندك فأطعمنا منه؛ أي: تقصَّد، وأجاز أن يكون التيمُّمالعمد والقصد، وهذا الاسم كثير حتى صار اسمًا للتمسح بالتراب)، وقال الفراء: (ولم أسمع: يممت بالتخفيف)، وقال أبو منصور: (التيمُّم التعمُّد، وهو ما ذكره البخاري في تفسير سورة المائدة، ورواه ابن حاتم، وابن المُنْذِر عن سفيان).

قلت: (التيمُّم) في اللغة: مطلق القصد؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ} [البقرة: ٢٦٧]؛ أي: لا تقصدوا، وقول الشاعر:

ولا أدري إذا يمَّمت أرضًا... أريد الخير أيُّهما يليني

وفي الشريعة: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة، وهو مسح الوجه واليدين؛ لاستباحة الصَّلاة، وامتثال الأمر، وشرائط التيمم تسعة: النية، والمسح، وكونه بثلاث أصابع فأكثر، والصعيد، وكونه مطهرًا، وفقد الماء، وطلبه إن ظنَّ قربه، وزوال ما ينافيه، والإسلام.

وسننه ثلاثة عشر: الضرب بباطن كفيه، وظاهرهما، وإقبالهما، وإدبارهما، ونفضهما، وتفريج أصابعه، والتسمية، والترتيب، والولاء، والتيامن، وخصوص الضرب على الصعيد، وكون المسح بالكيفية المخصوصة، وتخليل اللحية، وكون الضرب بظاهر الكفين، وقد نظمها شيخ شيخنا فقال:

ومسح وضرب ركنه العذر شرطه... وقصد وإسلام صعيد مطهر

وتطلاب ماء ظن تعميم مسحه... بأكثر كف فقدها الحيض يذكر

وسن خصوص الضرب نفض تيامن... وكيفية المسح التي فيه تؤثر

وسم ورتب وال بطن وظهرن... وخلل وفرج فيه أقبل وتدبر

قلت: واشتراط النية يغني عن اشتراط الإسلام؛ لأنَّها لا تصح من كافر، ولهذا اقتصر في النظم على الإسلام فقط، ومن ذكرها؛ فمراده: التوضيح؛ لأنَّها مستلزمة للإسلام، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».

(وقول الله عز وجل) بواو العطف على (كتاب التيمم)؛ والتقدير: وفي بيان قول الله، وفي رواية الأصيلي: (قول الله تعالى) بدون الواو، فوجهه أن يكون مبتدأ، وخبره قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا}، كذا في «عمدة القاري».

وزعم ابن حجر أن (الواو) للاستئناف، ورده إمام الشارحين فقال: (وهو غير صحيح؛ لأنَّ الاستئناف جواب عن سؤال مقدَّر، وليس لهذا محل هنا، فإن قال هذا القائل: مرادك الاستئناف اللغوي؟ قلت: هذا أيضًا غير صحيح؛ لأنَّ الاستئناف في اللغة الإعادة ولا محل لهذا المعنى ههنا؛ فافهم).

({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}) كذا في رواية الأكثرين وهو الصواب، وهو الموافق للقرآن المجيد في سورة المائدة والنساء، وفي رواية النسفي، وعبدوس، والحموي، والمستملي: (فإن لم تجدوا)، ووقع التصريح به في رواية حمَّاد بن سَلَمَة، عن هشام، عن

<<  <   >  >>