أبيه، عن عائشة رضي الله عنها في قصتها المذكورة، قال:(فأنزل الله آية التيمم: {فإن لم تجدوا} ...)؛ الحديث، والظاهر أن هذا وهم من حمَّاد أو غيره، أو قراءة شاذة لحمَّاد كذا قاله إمام الشارحين، والمراد بعدم الوجدان: عدم القدرة على استعماله إمَّا لعدمه، أو بعده، أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو والرشاء، أو لمانع عنه من حيَّة، أو عدوٍّ، أو سبع، أو غير ذلك؛ لأنَّ الممنوع عنه كالمفقود، والمترخص بالتيمم إمَّا محدث أو جنب، والحالة المقتضية له في الغالب مرض أو سفر، والجنب لمَّا سبق ذكره؛ اقتصر على بيان حاله، والمحدث لما لم يجر ذكره؛ ذكر أسباب ما يحدث له بالذات، وما يحدث بالعرض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل أحوال الجنب، وبيان العذر مجملًا، وكأنه قيل: وإن كنتم جنبًا، مرضى، أو على سفر، أو محدثين جئتم من الغائط، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء؛ ({فَتَيَمَّمُوا}) أي: اقصدوا وتعمَّدوا ({صَعِيدًا}) أي: وجه الأرض ترابًا أو غيره، سمي صعيدًا؛ لكونه صاعدًا عنها، أو لأنَّه يصعد عليها، قال الأصمعي: الصعيد: وجه الأرض (فعيل) بمعنى: مفعول؛ أي: مصعود عليه)، وحكاه ابن الأعرابي، وكذا قاله الخليل، وثعلب، وقيل: هو الظاهر من وجه الأرض، وقال الزجاج في «المعاني» : (الصعيد: وجه الأرض، ولا يبالي أكان في الموضع تراب أم لم يكن؛ لأنَّ الصعيد ليس اسمًا للتراب، وإنَّما هو وجه الأرض ترابًا كان أو صخرًا لا تراب عليه، قال الله تعالى:{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}[الكهف: ٤٠]، فأعلمك أن الصعيد يكون زلقًا)، وقال قتادة:(الصعيد: الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر)، ومعنى قوله:({طَيِّبًا}) : طاهرًا، وقال أبو إسحاق: الطيِّب: النظيف، وقيل: الحلال، وقيل: الطيِّب: ما تستطيبه النفس، وأكثر العلماء على أن معناه: طاهرًا، كذا قاله إمام الشارحين، وروي: أن الله تعالى خلق درة فنظر إليها؛ فصارت ماء، وعلا الزبد عليه، فخلق الله تعالى الأرض من زبدة؛ فيكون أحلَّ الأرض من الماء؛ فلهذا أقام تعالى التيمم مقام الماء عند فقده، والله أعلم، فيصح التيمم بكلِّ ما كان من أجزاء الأرض، ولو مسح على صخر أملس وتيمم؛ صحَّ ذلك، هذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، وقتادة، وهو قول أهل التفسير واللغة، ويدلَّ عليه نصوص القرآن، قال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا (١) زَلَقًا}، وقال تعالى:{صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف: ٨]، وقال عليه السلام:«يحشر الناس في صعيد واحد»، فهذا ظاهر في أن الصعيد: وجه الأرض، ولا يلزم أن يكون عليه تراب كما زعمه الشافعية، حيث شرطوا أن يكون التيمم على التراب، وهو خلاف القرآن؛ لأنَّه تعالى أمر بالتيمم على الصعيد؛ وهو وجه الأرض، فالتيمم على التراب ليس من النص المأمور به، وسيأتي بيانه، ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}) أي: فامسحوا الصعيد بها، وقيل: الباء زائدة؛ كقوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}[المؤمنون: ٢٠]؛ وتقديره: فامسحوا وجوهكم وأيديكم، واليد لغة: من رؤوس الأصابع إلى الإباط، وشرعًا اختلف فيها، فقال الزُهْرِي:(يشترط مسحها إلى الإباط؛ لأنَّ الاسم لكلها لغة، وفي الوضوء اقتصر على المرافق؛ لأنَّ النص مده إليها)، وقال الأوزاعي:(يشترط مسحها إلى الرسغ، كما في قوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة: ٣٨]).
وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: يشترط مسحها إلى المرافق وهو قول مالك، ومحمَّد بن إدريس، وأحمد؛ لأنَّ التيمم بدل عن الوضوء؛ فيقدَّر بتقدير الأصل، وأمَّا القطع في السرقة؛ فقد ورد النص بتقديره، وقد ثبت أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ههنا: وأيديكم إلى المرافق، وإنَّما اكتفى بمسح الوجه واليدين؛ لأنَّ التيمم رخصة، فكما رخَّص فيه من حيث الآلة وهو: الاكتفاء بالصعيد الملوث، كذلك رخَّص فيه من حيث محله؛ حيث اكتفى فيه بشطر أعضاء الوضوء، وقيل: إنَّما اكتفى فيه بالمسحتين؛ لأنَّ الأصل في أركان الوضوء غسل الوجه والذراعين؛ حيث لا ينو بهما شيء من المسح، بخلاف الرأس والرجلين، فإنَّ المسح فيها ينوب عن الغسل؛ فلهذا اكتفي بهما؛ فليحفظ.
قلت: وفيه جواب آخر: وهو أنَّه تعالى بين سبب المشروعية في التيمم؛ وهي السفر، والمرض، وعدم وجدان الماء، والمسافر، والمريض، والعادم يشقَّ عليهم خلع النعل وخلع العمامة بسبب البرد والحر؛ فيسر لهم ذلك وجعله رخصة، ولهذا قال في آخر الآية:{إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء: ٤٣]؛ فمن كان عادته أن يعفو عن المذنبين؛ فبأن يرخِّص للعاجزين كان أولى، ورحمته وسعت كل شيء.
وقوله:({مِّنْهُ})[النساء: ٤٣] ثابتة في رواية كريمة، ساقطة في رواية أبي ذرٍّ، فعلى الرواية الأولى تعين أنها آية المائدة، وعلى الثانية تعين أنها آية النساء؛ لأن آية المائدة فيها لفظة (منه)، وآية النساء ليس فيها لفظة (منه)، وتعلق بها محمَّد بن إدريس الشافعي وأصحابه، فزعموا أن التيمم لا يصح على الصخر الأملس، بل يشترط أن يكون عليه تراب، فعندهم لا يجوز إلا بالتراب، ووجه تعلقهم أن (من) في الآية؛ للتبعيض، والضمير عائد على الصعيد وهو التراب؛ لما روي عن ابن عباس: أن الصعيد الطيِّب: التراب الخالص، وهذا مردود؛ لأنَّ (من) ليست للتبعيض، بل هي لابتداء الغاية؛ لأنَّه لا يصح فيها ضابط التبعيض والبيان؛ وهو وضع بعض موضعها في الأول، ولفظه (الذي) في الثاني، و (الباء) في الأول بحاله، ويزاد في الثاني جزء؛ ليتم صلة للموصول؛ كما في قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}[الحج: ٣٠]؛ أي: الذي هو الأوثان، ولو قيل: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه؛ أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحًا والعضويين آلته، وهو منتفٍ إجماعًا، وأمَّا الضمير؛ فهو عائد على المحدث بدليل: أن التيمم رخصة للمحدث المذكور في الآية وهو ظاهر؛ فافهم.
وزعم البيضاوي أنَّ جعل (من) لابتداء الغاية تعسُّف؛ إذ لا يفهم من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن إلا للتبعيض.
قلت: وهو مردود؛ فإن عدم الفهم إنَّما نشأ من اقتران (من) بالزمن ونحوه؛ مما هو أسهل التبعيض، ولو قرنت بما ليس كذلك؛ لانعكس الحكم، فيقال: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت يدي من الحجر أو الحائط معنى: (التبعيض) أصلًا، بل معنى: الابتداء، ومدخولها ههنا هو الصعيد، وهو مشتمل على ما يتبعض؛ لشموله التراب وغيره ممَّا على وجه الأرض، ومعناها الحقيقي المجمع عليه: هو الابتداء، فإنَّه لم ينكره أحد من العرب، وأمَّا التبعيض؛ فقد أنكره جماعة من أهل العربية؛ منهم: المبرِّد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، فقالوا: لا دلالة لها على غير الابتداء، وأمَّا [ما] روي عن ابن عباس؛ فغير صحيح