للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(ذلك يا رسول الله؟ قال) عليه السلام: أولت (الدينَ)؛ بالنصب: معمول (أولت).

قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (يلزم من الحديث أن يكون عمر أفضل من الصدِّيق؛ لأنَّ المراد بالأفضل الأكثر ثوابًا، والأعمال علامات الثواب، فمن كان دينه أكثر؛ فثوابه أكثر، وهو خلاف الإجماع، قال: قلت: لا يلزم ذلك؛ لأنَّ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع، وعلى تقدير الحصر؛ فلم يخص الفاروق بالثالث ولم يقصره عليه، ولئن سلمنا التخصيص؛ فهو معارَض بالأحاديث الكثيرة البالغة درجة التواتر المعنوي الدالة على أفضلية الصدِّيق، فلا تعارضها الآحاد، ولئن سلمنا التساوي بين الدليلين؛ لكن إجماع أهل السنة والجماعة على أفضليته، وهو قطع، فلا يعارضه الظني، وقد أنكر ذلك الشيعة والخوارج، قلنا: لا اعتبار بمخالفة أهل الضلال، والأصل إجماع أهل السنة والجماعة) انتهى.

وفي الحديث: التشبيه البليغ؛ وهو تشبيه الدين بالقميص؛ لأنَّه يستر العورة، وكذلك الدين يستره من النار، وفيه التفاضل في أهل الإيمان بالأعمال، والله أعلم.

(١٦) [باب الحياء من الإيمان]

هذا (باب) بالتنوين: (الحياءَ) بالمد والرفع، مبتدأ، خبره (من الإيمان)، وحديثه سبق، وفائدة سياقه هنا: أنه ذكر الحياء هناك بالتبعية وهنا بالقصد، مع فائدة تغاير الطريق، أفاده في «عمدة القاري».

[حديث: دعه فإن الحياء من الإيمان]

٢٤ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التِّنِّيسي السابق (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا) (مالك) وفي رواية: (مالك بن أنس)، (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب، القرشي العدوي، التابعي، المتوفى بالمدينة سنة ست ومئة، (عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر) أي: اجتاز (على رجل من الأنصار وهو) أي: حال كونه (يعظ أخاه) من الدين، والرجلان لم يسمَّيا (في) شأن (الحياء) بالمد؛ وهو تغير وانكسار يحصل عند خوفِ ما يُعاب أو يذم، وهو من خصائص الإنسان، والوعظ: النصح، والتخويف، والتذكير، ومعناه كما قال التميمي: الزجر؛ أي: يزجره ويقول له: لا تستحي؛ لأنَّه كان كثير الحياء، وذلك يمنعه من استيفاء حقه، فوعظه أخوه على ذلك، ووقع هنا كلام بين ابن حجر وإمامنا الشيخ بدر الدين العيني في الرواية؛ كما بينه القسطلاني.

(فقال) له (رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه)؛ أي: اتركه على حيائه، (فإن الحياء من الإيمان)؛ أي: شعبة من شعب الإيمان، فـ (مِن) للتبعيض؛ كما مر، فالحياء يمنع من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسُمِّي إيمانًا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه.

فإن قلت: إذا كان الحياء بعض الإيمان، فإذا انتفى الحياء؛ انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان؛ انتفت (١) حقيقة الإيمان؛ فينتج من هذه المقدمات انتفاء الإيمان عن من لم يستح، وانتفاء الإيمان كفر.

قلت: لا نسلم صدق كون الحياء من حقيقة الإيمان؛ لأنَّ المعنى: فإنَّ الحياء من مكملات الإيمان، وفي الكمال لا يستلزم الحقيقة، نعم؛ الإشكال قائم على قول من يقول: الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وهذا لم يقل به المحققون؛ كما قدمناه، أفاده في «عمدة القاري».

(١٧) [باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}]

(باب) بالتنوين والإضافة كما في «فرع اليونينية»، قال ابن حجر: والتقدير: (بابٌ في تفسير قوله)، و (بابُ تفسير قوله)، ونظر فيه إمامنا الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن المصنف لم يضع الباب لتفسير الآية، بل غرضه بيان أمور الإيمان، وبيان أن الأعمال من الإيمان، مستدلًّا على ذلك بالآية والحديث، فـ (باب) بمفرده لا يستحق إعرابًا؛ لأنَّه كتعديد الأسماء من غير تركيب، والإعراب لا يكون إلَّا بعد العقد والتركيب، اهـ، وقد سلمه القسطلاني؛ فليحفظ.

({فَإِن تَابُوا})؛ أي: المشركون عن شركهم بالإيمان، ({وَأَقَامُوا}) أي: أدوا ({الصَّلاةَ}) على وجهها المعهود، ({وَآتَوُا الزَّكَاةَ}) أعطوها؛ ({فَخَلُّوا}) أي: أطلقوا ({سَبِيلَهُمْ}) [التوبة: ٥] جواب شرط؛ أعني: {فإن تابوا}، والمعنى: كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم؛ لأنَّهم عصموا دماءهم وأموالهم بالرجوع عن الكفر إلى الإسلام وشرائعه، وفيه الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان غير محتاج إلى الأعمال.

[حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله]

٢٥ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد)؛ أي: ابن عبد الله، زاد في رواية: (المُسنَدي)؛ بضم الميم وفتح النون؛ وقد مر، (قال: حدثنا أبو رَوْح)؛ بفتح الراء وسكون الواو، واسمه (الحَرَمِي)؛ بفتح الحاء والراء المهملتين، وكسر الميم، وتشديد المثناة التحتية بلفظ النسبة، تثبت فيه (أل) وتحذف، وليس نسبة إلى الحرم؛ كما تُوُهِّم، (بن عُمارة)؛ بضم العين المهملة وتخفيف الميم؛ ابن أبي حفصة نابت؛ بالنون، العتكي البصري، المتوفى سنة إحدى وثمانين (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن واقد بن محمد) بالقاف، زاد في رواية: (يعني: ابن زيد بن عبد الله بن عمر)، (قال: سمعت أبي) محمد بن زيد بن عبد الله (يحدث عن ابن عمر) بن الخطاب، عبد الله رضي الله عنهما، فواقد روى هنا عن أبيه عن جد أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُمرت)؛ بضم الهمزة، مبنيٌّ لما لم يُسم فاعله (أنْ)؛ أي: أمرني الله تعالى بأن (أقاتل الناس)؛ أي: بمقاتلة الناس؛ وهو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بـ (الناس) : المشركون، ويدل له رواية النسائي بلفظ: «أمرت أن أقاتل المشركين»، أو المراد: أهل الكتاب (حتى) أي: إلى أن (يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، والتصديق بالرسالة يتضمن التصديق بكل ما جاء به، (و) حتى (يقيموا الصلاة)؛ أي: يؤدوها بشروطها، (و) حتى (يؤتوا الزكاة)؛ أي: يعطوها لمستحقها.

وفي (الجهاد) الاقتصار على قول: (لا إله إلا الله)، قاله وقت قتاله للمشركين الذين لا يقرُّون بالتوحيد، وأما حديث الباب؛ ففي أهل الكتاب المُقرِّين به الجاحدين لنبوته، وأما في (أبواب القِبلة) : «وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قِبلتَنا، وذبحوا ذبيحتنا»؛ ففي مَن دخل الإسلام ولم يعمل الصالحات؛ كترك الجمعة والجماعة؛ فيقاتَلوا حتى يرجعوا.

(فإذا فعلوا ذلك) أو أعطوا الجزية، وأطلق الفعل على القول؛ لأنَّه فعل اللسان أو من باب التغليب؛ (عصموا)؛ أي: حفظوا ومنعوا (مني دماءهم وأموالهم)، فلا تُهدر دماؤهم، ولا تستباح أموالهم بعد عصمتهم بالإسلام (إلا بحق الإسلام) مِنْ قتْلِ نفس، أو حدٍّ، أو غرامة، (وحسابهم) بعد ذلك (على الله) في أمر سرائرهم، وأما نحن؛ فإنَّما نحكم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، وأما أمور الآخرة؛ فمفوَّضٌ إلى الله، ولفظة (على) مشعرةٌ بالإيجاب؛ فظاهره غير مراد، فإما أن يكون المراد: وحسابهم إلى الله، أو لله، أو أنه يجب أن يقع، لا أنَّه تعالى يجب عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين: بوجوب الحساب عقلًا، واقتُصر على الصلاة والزكاة؛ لأنَّ الأولى بدنيَّة عماد الدين، والثانية مالية قنطرة الإسلام.

ويؤخذ من هذا الحديث: أن تارك الصلاة عمدًا معتقدًا وجوبها بترك فرض واحد؛ يُقتل حدًّا، وهو مذهب الشافعي، وفيه أنه لا يصح الاستدلال؛ لأنَّ المأمور فيه هو القتال، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل؛ لأنَّ المفاعلة تستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولم يقل: مانع الزكاة، مع أن الحديث يشمله، ومذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين: أن تارك الصلاة يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل.

(١٨) [باب من قال: إنَّ الإيمان هو العمل]

(باب) مضاف إلى ما بعده، ولا يجوز غيره، وارتفاعه؛ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب (من قال: إنَّ الإيمان هو العمل) ردًّا على المرجئة القائلين: بأن الإيمان قول بلا عمل (لقوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل) : ({وَتِلْكَ}) مبتدأ، خبره قوله: ({الجَنَّةُ الَتِي أُورِثْتُمُوهَا})؛ أي: صُيِّرت لكم ميراثًا، فأطلق الإرث مجازًا عن الإعطاء؛ لتحقق الاستحقاق، أو المورِّث الكافر وكان له نصيب منه؛ ولكن كفره منعه فانتقل منه إلى المؤمن، ({بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}) [الزخرف: ٧٢]؛ أي: تؤمنون، و (ما) مصدرية؛ أي: بعملكم، أو موصولة؛ أي: بالذي كنتم تعملونه، و (الباء) للملابسة؛ أي: أورثتموها ملابسة لأعمالكم؛ أي: لثوابها، أو للمقابلة؛ نحو: أُعطيت الشاة بالدرهم، ولا تنافي بين ما في الآية وبين حديث: «لن يدخل أحد الجنة بعمله»؛ لأنَّ المثبَت في الآية: الدخول بالعمل المقبول، والمنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه، والقبول من رحمة الله، فرجع الأمر إلى أن الدخول برحمته تعالى.

(وقال عِدَّة)؛ بكسر العين وتشديد الدال؛ أي: عدد (من أهل العلم) كأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومجاهد، (في قوله تعالى) وفي رواية: (عز وجل) : ({فَوَرَبِّكَ}) يا محمد ({لَنَسْأَلَنَّهُمْ})؛ أي: المقتسمين، وجواب القسم مؤكدًا باللام ({أَجْمَعِينَ}) [الحجر: ٩٢] تأكيد للضمير في {لَنَسْأَلنَّهُمْ} مع الشمول في إفراد المخصوصين ({عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: ٩٣]؛ عن لا إله إلا الله) وفي رواية: (عن قول: لا إله إلا الله).

قال النووي: المعنى: لنسألنَّهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل، اهـ.

قلت: وردَّ عليه ابن حجر في «فتحه»، واعترضه الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وحاصله: أن دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تُقبل؛ لأنَّ الكلام عام في السؤال عن التوحيد وغيره، فإن استدل بحديث الترمذي؛ فقد ضعف من جهة ليث، وليس التعميم في قوله: (أجمعين) حتى يدخل فيه المسلم


(١) في الأصل: (انتفى).

<<  <   >  >>