للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

به التغليظ، كما ذكرنا، ويحتمل أنَّ حذيفة لم ير فعل صلاة الرجل حقيقة، بل رأى شبحًا من بعيد قائمًا وقاعدًا (١)، ثم رآه فأخبره بأنه قد صلى، فيحتمل أنَّه لم ير حقيقة فعله على أنَّ هذا لا يدل على الفرضية؛ لأنَّ حذيفة لم يأمره بالإعادة، ولا ذكر أنَّه يعيد، ولو كان صلَّى صلاة فاسدة؛ لأمره بالإعادة، ولم يذكر في الحديث أنَّه أعاد صلاته ولا أنَّه أمره بالإعادة، وهذا يدل على صحة صلاته.

وقال ابن البطال: قوله: ما صليت؛ يعني: صلاة كاملة، ونفى عنه العمل بقلَّة التجويد فيها، كما تقول للصانع إذا لم يجد: ما صنعت شيئًا؛ يريد الكمال، وهو يدل على أن الطمأنينة سنة.

قال إمام الشَّارحين: هذا التأويل لمن يدَّعي أن الطمأنينة في الركوع والسجود سنة، وهو مذهب الإمام الأعظم، ومحمد بن الحسن، ومالك بن أنس، والجمهور، وعند الإمام أبي يوسف ومحمد بن إدريس أنها فرض، انتهى.

قلت: والصواب: الأول، وما رواه الطبراني عن أنس مرفوعًا: «ومن لم يتمَّ لها خشوعها، ولا ركوعها، ولا سجودها؛ خرجت وهي سوداء مظلمة، تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، حتى إذا كانت حيث شاء الله تعالى لفَّت كما يلفُّ الثوب الخلق، ثم ضرب بها وجهه»، وما رواه ابن خيثم: «ساجدًا كخرقة ملقاة وعليه عصافير لا يشعر بها»، فإنَّه يدل على التهديد، والتخويف، والتغليظ، لا على عدم الصحة، يدل عليه أنه قال: (من لم يتم لها خشوعها...) إلى آخره، فإن الخشوع في الصلاة ليس فرضًا إجماعًا، بل هو مستحب، وكذلك الركوع والسجود؛ فإنَّ الإتمام فيهما سنة أيضًا، وحيث قرب عدم تمام الخشوع مع عدم تمام الركوع والسجود دلَّ ذلك على أن إتمامهما سنة، كما لا يخفى، والله أعلم؛ فافهم، فقام لنا الدليل على أن الاطمئنان في الأركان سنة أو واجب وليس بفرض، والعناد بعد ذلك مكابرة؛ فليحفظ.

(٢٧) [باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود]

هذا (باب) بالتنوين (يُبْدي)؛ بضمِّ التحتية من الإبداء؛ وهو الإظهار؛ أي: يظهر، والمعنى: باب بيان أن السنة للمصلِّي أن يبدي (ضَبْعيه) تثنية ضَبْع بفتح الضاد المعجمة وسكون الموحدة وفي «الموعب» : الضَّبع: مثال (صقر) : العضد، مذكر، ويقال: الإبط، وقيل: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه، وفي «المخصص» : الضبع: هو إذا أدخلت يدك تحت إبطيه من خلفه، واحتملته، والعضد يذكر ويؤنث، وفي «المحكم» : الضبع يكون للإنسان وغيره، وفي «الجامع» : الضَّبعان: رأسا المنكبين، الواحد: ضبْع؛ ساكن الباء، والجمع أضباع، وقال السفاقسي: الضبع: ما تحت الإبط، ومعنى: (يبدي ضبعيه) : لا يلصق عضديه بجنبيه كذا في «عمدة القاري».

(ويجافي) أي: يباعد عضديه عن (جنبيه) ويرفعهما عنهما (في السُّجود) (ويجافي) : من الجفاء؛ وهو البعد عن الشيء، يقال: جفاه إذا أبعد عنه، وأجفاه إذا أبعده، ويجافي بمعنى يجفي؛ أي: يبعد جنبيه، وليست المفاعلة ههنا على بابها؛ كما في قوله تعالى {وَسَارِعُوا} [آل عمران: ١٣٣]؛ بمعنى: أسرعوا، كذا في «عمدة القاري».

ثم قال: فإن قلت: ما المناسبة بين البابين على تقدير ثبوت هذا الباب ههنا؟

قلت: من حيث إن المذكور في الباب السَّابق حكم الطمأنينة في السُّجود، وههنا إبداء الضبعين ومجافاة الجنبين في السجود، وكلها من أحكام السجود، انتهى.

[حديث: أن النبي كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض أبطيه]

٣٩٠ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا) كذا للأربعة، ولغيرها: (أخبرنا) (يَحْيَى ابنُ بُكَيْرٍ)؛ بضم الموحدة وفتح الكاف مصغَّر بكر: هو البصري (قَالَ حَدَّثَنَا) وفي رواية: (أخبرنا) (بَكْرُ) بفتح الموحَّدة وسكون الكاف (بنُ مُضَرَ)؛ بضم الميم وفتح الضاد المعجمة: هو البصري، قال إمام الشَّارحين وتبعه الدماميني، والبرماوي، وابن حجر، والقسطلاني: أنَّه روي غير منصرف؛ للعلميَّة والعدل؛ مثل: عمر، انتهى.

وزعم الكرماني أنَّه ممنوع من الصرف؛ للعلمية والعجمة، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا بعيد؛ لأنَّه لفظ عربي خالص من مضر اللبن يمضر مضورًا: هو الذي يحذي اللسان قبل أن يروَّب، قال أبو البيداء: اسم مضر مشتقٌّ منه وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان، انتهى.

(عَنْ جَعْفَرٍ) زاد الأصيلي: (بن ربيعة) : هو ابن سرجيل المصري المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، (عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ)؛ بضمِّ الهاء والميم: هو عبد الرحمن الأعرج المشهور بالرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، (عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَالِكٍ) : هو ابن القِشْب بكسر القاف، وسكون الشين المعجمة، وبالموحَّدة الأزدي (ابنِ بُحَيْنَةَ)؛ بضم الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، وفتح النون: هو اسم أم عبد الله؛ فهو منسوب إلى الوالدين، أسلم قديمًا، وصحب النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان ناسكًا فاضلًا يصوم الدهر، مات زمن معاوية رضي الله عنه.

والصواب فيه: أن ينون (مالك)، ويكتب (ابن) بالألف؛ لأنَّ ابن بحينة ليس صفة لمالك، بل صفة لعبد الله؛ لأنَّ عبد الله اسم أبيه مالك، واسم أمه بحينة، فبحينة امرأة مالك وأم عبد الله، فليس الابن واقعًا بين علمين منتسبين، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».

(أَنَّ النَّبِيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ إِذَا صَلَّى)؛ أي: سجد، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، كما سيأتي (فَرَّجَ)؛ بفتح الفاء وتشديد الراء وتخفيفها، يقال: فرَّج الله الغم؛ بالتشديد والتخفيف، وهو من باب (ضرب يضرِب)، وهو لفظ مشترك بين فرج العورة والثغر وموضع المخافة، كذا قاله إمام الشَّارحين.

قلت: وظاهر كلامه: أنَّ الرواية بالتشديد والتخفيف، لكن نقل القسطلاني عن السفاقسي أنَّه قال: رويناه بتشديد الراء والمعروف في اللغة التخفيف، وقد يقال: إن إمام الشَّارحين رواه بالتشديد والتخفيف، كما هو ظاهر كلامه؛ فتأمل.

يعني: فتح عليه السَّلام (بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ يعني: وجنبيه، والحكمة فيه: أنه أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة من الأرض، وأبعد من هيئات الكسالى، كذا في «عمدة القاري».

ثم قال: وقوله: (بين يديه) على حقيقته؛ يعني: قدَّامه، وأراد ببعد قدَّامه من الأرض (حَتَّى يَبْدُوَ) بواو مفتوحة؛ أي: يظهر (بَيَاضُ إِبْطَيْهِ)؛ بالتثنية وكسر الهمزة.

قال إمام الشَّارحين: ويؤيِّد هذا ما في رواية مسلم: (كان إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه).

وفي رواية الليث: (كان إذا سجد فرَّج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه).

وعنده أيضًا من حديث ميمونة: (كان عليه السَّلام إذا سجد لو شاءت بهيمة أن تمرَّ بين يديه؛ لمرَّت).

وفي رواية: (خوَّى بيديه)؛ يعني: جنح حتى يُرى وضح إبطيه من ورائه.

وعند الترمذي محسَّنًا والحاكم مصحَّحًا: عن


(١) في الأصل: (قائم وقاعد)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>