للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لكنَّ التيمُّم أحب إليه منه، فعلى هذا؛ هو أيضًا لا يساعد الترجمة، وروى أبو داود من طريق ابن جريج عن عطاء: (أنه كره الوضوء بالنبيذ واللبن، وقال: إن التيمُّم أعجب إليَّ منه).

قلت: أما التوضؤ باللبن؛ فلا يخلو إما أن يكون بنفس اللبن، أو بماء خالطه اللبن، فالأول: لا يجوز بالإجماع، وأما الثاني؛ فيجوز عندنا خلافًا للشافعي، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ يعني: إن بقي على رقته وسيلانه، وأما الوضوء بالنبيذ؛ فهو جائز عند الإمام الأعظم، لكن بشرط أن يكون حلوًا رقيقًا يسيل على الأعضاء؛ كالماء، وما اشتد منها؛ صار حرامًا لا يجوز التوضُّؤ به وإن غيَّرته النار، فما دام حلوًا؛ فهو على الخلاف، ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة جريًا على قضية القياس، انتهى.

يعني: وترك القياس فيه لوجود النص؛ فافهم.

وقال ابن بطال: (اختلفوا في الوضوء بالنبيذ، فقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز الوضوء بنيِّئه ومطبوخه مع عدم الماء أو وجوده، تمرًا كان أو غيره، فإن كان مع ذاك اشتد؛ فهو نجس لا يجوز شربه ولا الوضوء به، وقال الإمام الأعظم: لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا عدم الماء؛ فيجوز بمطبوخ التمر خاصة، وقال الحسن: جاز الوضوء بالنبيذ، وقال الأوزاعي: جاز الوضوء بالنبيذ وسائر الأنبذة) انتهى.

وفي «المغني» لابن قدامة: (وروي عن عليٍّ وابن عباس رضي الله عنهم: أنه كان لا يرى بأسًا بالوضوء بنبيذ التمر، وبه قال الحسن، والأوزاعي، وقال عكرمة مولى ابن عباس: النبيذ وضوء من لم يجد الماء، وقال إسحاق: النبيذ الحلو أحب إلي من التيمم، وجمعهما أحب إلي، وهو رواية عن الإمام الأعظم، وفي أخرى عنه: يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه) انتهى.

وزعم ابن حجر: أن ما روي عن علي وابن عباس لا يصح عنهما.

قلت: بل هذه النقول تدل على صحته عنهما، وعن غيرهما، والمثبت مقدم على النافي عند الأصوليين، وفي «أحكام القرآن» لأبي بكر الرازي، وعن الإمام الأعظم في ذلك ثلاث روايات؛ أحدها: يتوضأ به، ويشترط فيه النية ولا يتيمم، قال: وهذه هي المشهورة، وقال الإمام قاضيخان: وهي قوله الأول، وبها قال الإمام زفر، والثانية: يتيمم ولا يتوضأ، رواها عنه نوح بن أبي مريم، وأسد بن عمرو، والحسن بن زياد، قال قاضيخان: وهو الصحيح عنه، والذي رجع إليها، وبها قال الإمام أبو يوسف، وأكثر العلماء، واختارها الحافظ أبو جعفر الطحاوي، والثالثة: روي عنه الجمع بينهما؛ أي: بين الوضوء والتيمم، وهو قول الإمام محمَّد، انتهى.

قلت: ورجحه في «غاية البيان» وغيرها، لكن المذهب المصحح المختار المعتمد عندنا هو عدم جواز التوضؤ به؛ لأنَّ المجتهد إذا رجع عن قول لا يجوز الأخذ به، كما صرح به في «التوشيح»، كذا قاله صاحب «البحر الرائق»؛ فليحفظ.

وقال صاحب «المحيط» : (وصفة هذا النبيذ أن يلقى في الماء تمرات حتى يأخذ الماء حلاوتها، ولا يشتد، ولا يسكر، فإن اشتد؛ حرم شربه، فكيف الوضوء به؟ وإن كان مطبوخًا؛ فالصحيح أنه لا يتوضأ به).

وقال في «المفيد» : (إذا ألقي فيه تمرات، فحلا، ولم يزل عنه اسم الماء وهو رقيق؛ فيجوز الوضوء به بلا خلاف بين أصحابنا، ولا يجوز به الاغتسال على الصحيح)، لكن صحح في «المبسوط» : أنه يجوز الاغتسال به أيضًا.

قلت: وقوله: (بلا خلاف بين أصحابنا)؛ أي: أئمتنا المتقدمين، لكن اختار الأئمَّة المتأخرون عدم الجواز، وعليه الفتوى، كما في أكثر الكتب، فافهم.

وقال الإمام الكرخي: (المطبوخ أدنى طبخة يجوز الوضوء به إلا عند الإمام محمَّد)، وقال أبو طاهر الدباس: (لا يجوز)، وقال صاحب «البدائع» : (واختلف المشايخ في جواز الاغتسال بنبيذ التمر على أصل الإمام الأعظم، فقال بعضهم: لا يجوز؛ لأنَّ الجواز إنَّما عرف بالنص، وهو ورد بالوضوء دون الاغتسال، فيقتصر على مورد النص، وقال بعضهم: يجوز؛ لاستوائهما في المعنى).

قلت: وسبق أن صاحب «المفيد» صحَّح القول الأول، وصاحب «المبسوط» صحَّح القول الثاني، وقال صاحب «عمدة القاري» : ثم لا بد من تفسير نبيذ التمر الذي فيه الخلاف؛ وهو أن يلقى في الماء شيء من التمر؛ لتخرج حلاوتها إلى الماء، وهكذا ذكر ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير النبيذ الذي توضأ به النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «تُمَيرات ألقيتها في الماء»؛ لأنَّ من عادة العرب أنها تطرح التمر في الماء؛ ليحلو، فما دام رقيقًا حلوًا أو قارصًا؛ يتوضأ به عند الإمام الأعظم، وإن كان غليظًا؛ كالرُّبِّ؛ لا يجوز التوضؤ به، وكذا إذا كان رقيقًا، لكنه غلا واشتد وقذف بالزبد؛ لأنَّه صار مسكرًا والمسكر حرام؛ فلا يجوز التوضُّؤ به؛ لأنَّ النبيذ الذي توضأ به النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان رقيقًا حلوًا؛ فلا يلحق به الغليظ، والنبيذ إن كان نيئًا أو كان مطبوخًا أدنى طبخة، فما دام قارصًا أو حلوًا؛ فهو على الخلاف وإن غلا واشتد وقذف بالزبد، وذكر الإمام القدوري في «مختصر الإمام الكرخي» الاختلاف فيه، فعلى قول الإمام الكرخي؛ يجوز، وعلى قول أبي طاهر؛ لا يجوز، وستأتي الأدلة في ذلك إن شاء الله تعالى.

[حديث: كل شراب أسكر فهو حرام]

٢٤٢ - وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو المديني (قال: حدثنا سفيان) هو ابن عُيينة؛ بضمِّ العين المهملة (قال: حدثنا الزُّهري)؛ هو محمَّد بن مسلم ابن شهاب، وفي رواية: (عن الزُّهري)، (عن أبي سَلَمَة)؛ بفتحات، عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: كل شراب أسكر؛ فهو حرام)؛ أي: كل واحد من أفراد الشراب المسكر حرام، وذلك لأنَّ كلمة (كل) إذا أضيفت إلى النكرة؛ تقتضي عموم الإفراد، وإذا أضيفت إلى المعرفة؛ تقتضي عموم الأجزاء، وزعم ابن حجر: أن «كل شراب أسكر»؛ أي: كل ما من شأنه الإسكار سواء حصل بشربه الإسكار أم لا، ورده في «عمدة القاري» : (بأنه ليس معناه كذا؛ لأنَّ الشارع أخبر بحرمة الشراب عند اتصافه بالإسكار، ولا يدل ذلك على أنه يحرم إذا كان يسكر في المستقبل) انتهى.

قلت: أي: فإن المراد بحرمة الشراب ما أسكر في الحال، وكونه يُسْكِرُ في المستقبل شيء عارض له، فإنه بسبب طول المدة يعرض له الإسكار، فإذا حصل فيه الإسكار؛ فهو نجس حرام إجماعًا، فالمراد بالشراب الحرام: هو ما أسكر بالفعل في الحال؛ فافهم.

وزعم الخطابي: أنه يدل على أن قليل السكر وكثيره حرام؛ أي: من أي نوع كان؛ لأنَّه صيغة عموم أشير بها إلى جنس الشراب الذي يكون منه السكر، فهو كما قال: كل طعام أشبع؛ فهو حلال، فإنه يكون دالًّا على كل طعام من شأنه الإشباع وإن لم يحصل الشبع به لبعض.

ورده في «عمدة القاري» : بأن قوله: (قليل السكر وكثيره حرام) من أي نوع كان لا يتمشى في كل شراب، وإنما ذلك في الخمر لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا: «إنما حرمت الخمر؛ لعينها، والمسكر من كل شراب»، فهذا يدلُّ على أن الخمر حرام قليلها وكثيرها، أسكرت أم لا، وعلى أن غيرها من الأشربة إنَّما يحرم عند الإسكار، وهذا ظاهر.

فإن قلت: ورد عنه عليه السلام: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام».

قلت: طعن فيه يحيى بن معين وغيره من الحفاظ، ولئن سلم؛ فالأصح أنه موقوف على ابن عمر، ولهذا رواه مسلم بالظن، فقال: لا أعلمه إلا مرفوعًا، ولئن سلم؛ فمعناه: كل ما أسكر؛ فحكمه حكم الخمر، انتهى.

وأما النبيذ؛ فلا يحرم شربه، ويجوز التوضُّؤ به، وهو قول عليٍّ، وابن عباس، والحسن، والأوزاعي، وعكرمة، وإسحاق، وهو قول الإمام الأعظم، والإمام زفر، واستدلوا بحديث ابن مسعود حيث قال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الجن: «أمعك ماء؟»، وفي رواية: «ما في إداوتك؟» فقال: معي نبيذ، فقال: «نبيذ»، وفي رواية: فقال له عليه السلام: «اصبب عليَّ؛ إنه شراب وطهور»، وفي رواية: «تمرة طيبة، وماء طهور»، رواه أبو داود والترمذي، وزاد: (فتوضَّأ وصلى الفجر).

قلت: فهذا يدل ظاهرًا على ما قالوه،

<<  <   >  >>