للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وعلى هذا؛ فهذا الحديث لا يطابق الترجمة، وكان ينبغي أن يذكره في كتاب (الأشربة)؛ لأنَّ الشراب إذا كان مسكرًا يكون شربه حرامًا، فكذلك التوضُّؤ به، وأما النبيذ؛ فليس كذلك، فلا يساعد الترجمة، كما نبه عليه إمام الشارحين.

وزعم ابن حجر أن حديث ابن مسعود أطبق علماء السلف على تضعيفه، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: إنَّما ضعفوه؛ لأنَّ في رواته أبا زيد، وهو رجل مجهول لا يعرف له رواية غير هذا الحديث، قاله الترمذي، وقال ابن العربي في «شرح الترمذي» : أبو زيد مولى عمرو بن حريث، روى عنه راشد بن كيسان وأبو روق، وهذا يخرجه عن حد الجهالة، وأما اسمه؛ فلم يُعْرَف، فيجوز أن يكون الترمذي أراد به مجهول الاسم.

على أنه روى هذا الحديث أربعة [عشر] رجلًا عن ابن مسعود، كما رواه أبو زيد:

الأول: أبو رافع عند الحافظ الطحاوي والحاكم.

الثاني: رباح أبو علي عند الطبراني في «الأوسط».

الثالث: عبد الله بن عمر عند أبي موسى الأصبهاني في كتاب «الصحابة».

الرابع: عمرو البكالي عند أبي أحمد في «الكنى» بإسناد صحيح.

الخامس: أبو عبيدة بن عبد الله.

السادس: أبو الأحوص، وحديثهما عند محمَّد بن عيسى المدائني، وقول البيهقي: (إن محمَّد بن عيسى المدائني واهي الحديث) مردود؛ لأنَّ البرقاني قال فيه: إنه ثقة لا بأس به، وأن اللالكائي (١) صالح، قال: ليس يدفع عن السماع.

السابع: عبد الله بن مسَلَمَة عند الحافظ أبي الحسن بن المظفر في كتاب «غرائب شعبة».

الثامن: قابوس أبو ظبيان (٢) عن أبيه عند ابن المظفر أيضًا بسند لا بأس به.

التاسع: عبد الله بن عمر بن غيلان الثقفي عند الإسماعيلي في جمعه حديث يحيى بن أبي كثير عن يحيى عنه.

العاشر: عبد الله بن عباس عند الحافظ الطحاوي وابن ماجه.

الحادي عشر: أبو وائل شقيق بن سَلَمَة عند الدارقطني.

الثاني عشر: ابن لعبد الله رواه أبو عبيدة بن عبد الله، عن طلحة بن عبد الله، عن أبيه: أن أباه حدثه.

الثالث عشر: أبو عثمان بن سنة عند أبي حفص بن شاهين في كتاب «الناسخ والمنسوخ» من طريق جيد، وخرجها الحاكم في «مستدركه».

الرابع عشر: أبو عثمان النهدي عند الدورقي في «مسنده» بطريق لا بأس به، انتهى؛ فافهم.

وزعم العجلوني (أنه يمكن أن يجاب بأن إطباقهم على تضعيف الحديث لأمر آخر غير الجهالة في راويه) انتهى.

قلت: وهذا فاسد، فما الأمر الآخر غير الجهالة، وما هو إلا محض تعصب وتعنت، وكأنه لم يعلم بيان طرق الحديث التي (٣) قدمناها، والحديث على فرض ضعفه؛ فقد تقوَّى بهذه الطرق العديدة، وبها يرتقي إلى درجة الصحيح؛ فليحفظ.

وزعم ابن حجر تبعًا لابن بطال بأنه قد روي عن ابن مسعود من طرق ثابتة أنه لم يشهد ليلة الجن مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

ورده صاحب «عمدة القاري» : بأنه يجوز أن يكون صحبه في بعض الليل واستوقفه في الباقي، ثم عاد إليه، فصحَّ أنه لم يكن معه عند الجن لا نفس الخروج؛ أي: لا يصح أن يكون قد خرج عنه، وقد قيل: إن ليلة الجن كانت مرتين، ففي أول مرة خرج إليهم لم يكن مع النبيِّ عليه السلام ابن مسعود ولا غيره، كما هو ظاهر حديث مسلم، ثم بعد ذلك خرج إليهم وابن مسعود معه ليلة أخرى، كما رواه أبو حاتم في «تفسيره» في أول سورة الجن من حديث ابن جريج قال: وقال ابن عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة؛ فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة؛ فجن نصيبين، انتهى، فليحفظ.

وزعم ابن حجر: وقيل: على تقدير صحة حديث ابن مسعود، فإنه منسوخ؛ لأنَّ ليلة الجن كانت بمكة، ونزول قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: ٤٣] إنَّما كان بالمدينة بلا خلاف، فإنها نزلت في غزوة بني المصطلق بالمدينة حيث فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها.

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا القائل نقل هذا عن ابن القصار من المالكية، وابن حزم من الظاهرية، والعجب منه أنه مع علمه أن هذا مردود نقل هذا، وسكت عليه! ووجه الرد ما ذكره الطبراني في «الكبير»، والدارقطني: (أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله عليه السلام بأعلى مكة فهمز له بعقبه، فأنبع الماء، وعلمه الوضوء)، وقال السهيلي: (الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة رضي الله عنها: آية التيمم: ولم تقل: آية الوضوء؛ لأنَّ الوضوء كان مفروضًا قبلُ، غير أنه لم يكن قرآنًا يتلى حتى نزلت آية التيمم)، وحكى القاضي عياض عن ابن الجهم (أن الوضوء كان سنة حتى نزل فيه القرآن بالمدينة) انتهى.

قلت: ولا عجب منه؛ لأنَّه من الأخصام أهل التعصب على الأئمَّة الحنفية، ومنهم العجلوني حيث قال بعد هذا: (ولعله لا يسلم رده).

قلت: بل قد سلم رده؛ حيث إنه قد اطَّلع (٤) على هذا الرد في «الانتقاض»، ودرج عليه ولم يقل شيئًا، فهو دليل على تسليمه، وعلى فرض عدم تسليمه فما جوابه مع [ما] لم يجب عنه في «الانتقاض»، وما جوابه إلا جواب المتعصبين؛ فافهم.

ثم زعم ابن حجر أن الحديث- أي: حديث ابن مسعود- محمول على ما ألقيت فيه تمرات يابسة لم تغير له وصفًا، وإنما كانوا يضعون ذلك؛ لأنَّ غالب مياههم لم تكن حلوة) انتهى.

قلت: هذا الجواب أخذه هذا القائل من كلام البغوي، وهو فاسد؛ لأنَّ هذا الحمل غير صحيح؛ لأنَّ إلقاء التمر يابسًا مع عدم تغيُّر وصفه لا يُسمَّى نبيذًا، وقد سماه النبيُّ الأعظم عليه السلام نبيذًا، كما سبق في الروايات، على أن التقييد باليابس يحتاج إلى دليل صحيح، ولم يوجد؛ فهو تقييد من عنده على أن كون مياههم لم تكن حلوة؛ أي: فإنها كانت مالحة كما صرح به البغوي يلزم أن يُطرَح في الماء تمر غير يابس حتى يحلو الماء، ويحصل المقصود من طرحها، أما إذا كانت يابسة؛ فلا تحل شيئًا، فوجودها كالعدم، وهو مصادمة الحديث، وفساده ظاهر، كما لا يخفى؛ فليحفظ.

وزعم الكرماني أن القياس حجة على أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه؛ إذ رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب، فقلنا: يجب أن يكون نبيذ التمر كذلك، وأيضًا لما كان خارجًا عن حكم المياه في حال وجود الماء؛ كان خارجًا من حكم المياه في عدم الماء.

قلت: وهذا الزعم فاسد؛ لأنَّ قوله: (إن القياس حجة...) إلخ مردود؛ لأنَّه إنَّما يصار إلى القياس إذا لم يوجد النص، وهنا قد وجد النص في التوضؤ بالنبيذ، فكيف يقال بالمنع بالوضوء به قياسًا على نبيذ الزبيب؟ وما هو إلا قياس مع الفارق مع مخالفته لنص الحديث، فمع وجود النص يترك القياس؛ لأنَّه لا مجال له.

وقوله: (وأيضًا لما كان...) إلخ مردود أيضًا؛ لأنَّه لا يلزم من عدم جواز الوضوء بالنبيذ مع وجود الماء أنه لا يجوز الوضوء به مع عدم الماء الذي هو من شروطه عند الإمام الأعظم القائل بجواز الوضوء بالنبيذ مع عدم الماء، ألا ترى أن التيمم لا يصح مع وجود الماء، ويصح مع عدم الماء؛ فافهم، وقد ظهر أن كلام الكرماني فاسد؛ فليحفظ.

وتعجب العجلوني من صاحب «عمدة القاري» حيث لم يعترض على الكرماني في هذا الكلام.

قلت: لا عجب، فإن جواب كلامه يعلمه كل من له أدنى ذوق في العلم على أنه قد تعرض له ضمنًا لا صريحًا في أثناء كلامه، ولقد أنصف العجلوني هنا حيث رد كلام الكرماني بنحو ما علمت، والله أعلم.

وزعم الكرماني أن وجه احتجاج المؤلف بهذا الحديث في أن المسكر لا يجوز شربه، وما لا يجوز شربه؛ لا يجوز الوضوء به اتِّفاقًا؛ لخروجه عن اسم الماء لغة وشرعًا، والنبيذ غير المسكر أيضًا في معنى المسكر؛ لأنَّه لا يقع عليه اسم الماء، ولو جاز أن يسمى النبيذ ماء لأنَّ فيه ماء؛ جاز أن يسمَّى الخل ماء؛ لأنَّ فيه ماء، وقال أبو عبيدة إمام اللغة: (النبيذ لا طهورًا أبدًا؛ لأنَّ الله تعالى شرط الطهور بالماء والصعيد، ولم يجعل لهما ثالثًا) انتهى.

قلت: وقد رد هذا صاحب «عمدة القاري»، فقال في رد الأول:


(١) في الأصل: (اللالكاكي)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (طيبان)، وهو تحريف.
(٣) في الأصل: (الذي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>