للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكأن النووي لم يطلع على هذه الأحاديث حتى قال هذا الكلام المخالف لصريح الأحاديث الواردة في ذلك، وزعم القسطلاني أن حاصل النزاع بين النووي والقاضي عياض: أن ههنا عمومين تعارضا، وهما قوله: «البزاق في المسجد خطيئة»، وقوله: «وليبصق عن يساره أو تحت قدمه»، فالنووي يجعل الأول عامًّا، ويَخصُّ الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي عياض يجعل الثاني عامًّا، ويَخصُّ الأول بمن لم يرد دفنها، وتوسط بعضهم، فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر؛ كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر) انتهى.

قلت: وما زعمه ممنوع، فإنَّه ليس ههنا عمومان متعارضان ولا متفقان، فإن قوله: «البزاق في المسجد خطيئة» ليس عامًّا، بل هو خاص بمن كان يبزق في المسجد، فإنَّه صريح الحديث؛ بدليل قوله: «وكفَّارتها دفنها»، ولهذا ترجم المؤلف بـ (باب كفَّارة البزاق في المسجد)، وإنَّ قوله عليه السَّلام: «وليبصق عن يساره أو تحت قدمه» عامٌّ في جميع الأحوال، سواء كان في الصلاة أو خارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن مسعود: أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة، ومثله عن معاذ بن جبل، ونهى عنه مطلقًا عمر بن عبد العزيز، ويؤيده الأحاديث السابقة عند أحمد والطبراني وغيرهما؛ فليحفظ.

ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وفيه التصريح بسماع قتادة عن أبي هريرة، فانتفى تدليسه؛ فافهم.

(٣٨) [باب دفن النُّخامة في المسجد]

هذا (باب دفن النخامة في المسجد) ويجوز في لفظة (باب) التنوين وعدمه، وعلى الأول: يكون قوله: (دفن) مبتدأ، والخبر محذوف؛ تقديره: جائز، وعلى الثاني: يكون (باب) مضافًا لمحذوفٍ مضافٍ لتاليه؛ تقديره: باب جواز دفن... إلخ، والدفن: هو التَّواري؛ أي: التغيب بحيث لم يظهر للناظر، و (النُّخامة)؛ بضمِّ النون: ما يخرج من الصدر، والألف واللام في (المسجد)؛ للجنس، والمناسبة بين البابين ظاهرة.

[حديث: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه]

٤١٦ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق ابن نصر)؛ نسبه إلى جده؛ لشهرته به، وإلا؛ فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر البخاري (قال: حدثنا) ولأبوي ذر والوقت: (أخبرنا) (عبد الرزاق) : هو ابن همام الصنعاني، صاحب «المصنف»، (عن مَعْمَر)؛ بفتح الميمين، بينهما عين ساكنة، وللأصيلي: (أخبرنا مَعمَر) : هو ابن راشد البصري، (عن همَّام) على وزن (فعَّال)؛ بالتشديد: هو ابن مُنَبْه -بضمِّ الميم، وفتح النون، وتشديد (١) الموحدة- ابن كامل الصنعاني، أخو وهب: أنَّه (سمع أبا هريرة) : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنَّه (قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة)؛ أي: إذا أراد أحدكم القيام إليها على حد قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: ٦]، والمراد: أنه تهيأ إليها بأن استقبل القبلة، وأتى بالسنن، وبهذا التقدير اضمحل ما زعمه القسطلاني من أنه فسر القيام: بالشروع فيها؛ لأنَّه لا يوافق قوله: (فلا يبصق)؛ بالصاد المهملة، والجزم على النهي؛ لأنَّ البصاق يكون خروجه بحروف مفهمة، وهي تفسد الصلاة، وهو خلاف ما أراده عليه السَّلام، ويؤيده قوله عليه السَّلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هي التسبيح وقراءة القرآن»، أخرجه مسلم وغيره، ولا ريب أن الحروف المفهمة كلام، ويدل عليه الحصر في قوله: «إنما هي...» إلى إلخ، فإنَّها تسبيح وقرآن؛ فافهم.

(أَمامه)؛ بفتح الهمزة؛ أي: قدامه؛ والمراد: جهة القبلة، (فإنما) وللكشميهني: (فإنَّه)؛ أي: مريد الصلاة أو المصلي (يناجي الله) من جهة مساررته بالقرآن والأذكار، فكأنه يناجيه تعالى، والرب عز وجل يناجيه من جهة لازم ذلك؛ وهو إرادة الخير والبركة، فهو من باب المجاز؛ لأنَّ القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة؛ إذ لا كلام محسوسًا إلا من جهة العبد (ما دام في مصلاه)؛ أي: مدة دوامه في مصلاه، قاله إمامنا الشَّارح.

قلت: وأشار به إلى أن كلمة (ما) ظرفية مصدرية؛ معناها: المدة؛ يعني: مدة دوامه قاعدًا في مكان صلاته متوجهًا للكعبة، ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «إنكم في صلاة ما انتظرتموها»؛ يعني: ما دمتم منتظرين الصلاة، فأنتم فيها حكمًا من حيث إقبال الرب عليه بالرحمة والعفو والغفران، وهذا يؤيد ما قلناه، ويرد على ما زعمه القسطلاني آنفًا.

قال الشَّارح: (فإن قلت: هذا تخصيص المنع بما إذا كان في الصلاة، ورواية: «أذى المسلم» يقتضي المنع مطلقًا ولو لم يكن في الصلاة.

قلت: هذه مراتب، فكونه في الصلاة أشد إثمًا مطلقًا، وكونه في جدار القبلة أشد إثمًا من كونه في غيرها من جدار المسجد) انتهى.

قلت: وقوله: (هذا تخصيص المنع...) إلخ: قد يقال: إنه تخصيص المنع مطلقًا، سواء كان في الصلاة أو خارجها؛ لأنَّ من توضأ أو أذن أو أقام للصلاة يناجي ربه عزَّ وجلَّ؛ فهو مصلٍّ حكمًا، وهو موافق لما في رواية: (أذى المسلم)، فيكون المنع المطلق.

وقوله: (فكونه في الصلاة أشد...) إلخ: لما يلزم عليه من إظهار الحروف وفساد الصلاة، وهو غير جائز؛ لقوله تعالى: {وَلَا (٢) تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: ٣٣].

وقوله: (وكونه في جدار القبلة...) إلخ؛ لأنَّ القبلة لها شرف ومزية على غيرها من الجهات؛ لقوله عليه السَّلام: «فإن الله قِبَلَ وجهه»؛ أي: رحمته، كما قدمنا؛ فافهم.

(ولا) يبصق (عن يمينه؛ فإن عن يمينه مَلَكًا)؛ بفتح الميم واللام والكاف، وهذا يقتضي اختصاص منع البزاق عن يمينه؛ لأجل الملك، وفي يساره أيضًا ملك.

قلت: إنَّ لكل واحد قرينًا، وموقفه عن يساره، كما ورد في حديث أبي أمامة، رواه الطبراني، فإنَّه بين يدي الله وملكه عن يمينه، وقرينه عن يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره؛ يقع على قرينه، وهو الشيطان ولا يصيب الملك منه شيء، كذا قاله إمام الشَّارحين، وأجاب غيره: بأن لليمين شرفًا، قال إمامنا: (وفيه نظر).

قلت: ووجهه أن على اليمين ملكًا كما أن على اليسار ملكًا أيضًا، فأين الشرف الذي لليمين على اليسار؟ وقد يقال: إن لليمين شرفًا من حيث إنَّه عليه السَّلام كان يبدأ بها في مشيه ودخوله وخروجه وأحواله كلها، وقد يقال: هذا لا يقتضي الشرف؛ لاحتمال أنه يفعل ذلك؛ لأجل التسهيل عليه والعادة.


(١) في الأصل: (وسكون)، والمثبت موافق لما في كتب التراجم.
(٢) في الأصل: (لا)، والمثبت موافق للتلاوة.

<<  <   >  >>