الصلاة، ويتم، ويفطر، ويصوم)، قال الدارقطني: (إسناده صحيح).
قلنا: وهذا كله لا حجة له فيه، وحجته من ذلك مردودة، أمَّا قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ..}؛ الآية؛ فلا يدل له؛ لأنَّ المراد من القصر المذكور في الآية هو قصر الأوصاف من ترك القيام إلى القعود، أو ترك الركوع والسجود إلى الإيماء؛ لخوف العدو؛ بدليل أنه تعالى علق ذلك بالخوف؛ إذ قصر الأصل غير متعلق بالخوف بالإجماع، بل متعلق بالسفر، وعندنا: قصر الأوصاف مباح لا واجب مع أن رفع الجناح في النص لرفع توهم النقصان في صلاتهم بسبب دوامهم على الإتمام في الحضر، وذلك مظنة توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم، وبهذا فسر الآية ابن عباس حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن؛ حيث قال: المراد من القصر التخفيف في كيفيات أداء الركعات وهو أن يكتفى في الصلاة بالإيماء بدل الركوع والسجود، وبه قال طاووس وغيره.
وأمَّا قوله عليه السَّلام: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»؛ فلا دليل له فيه، بل هو حجة لما قاله إمامنا الإمام الأعظم والجمهور؛ لأنَّه عليه السَّلام أمر بالقبول؛ ومعناه: اعتقدوه واعملوا به، فلا يبقى له خيار الرد شرعًا؛ لأنَّ الأمر منه عليه السَّلام للوجوب، ومعنى قوله عليه السَّلام: «تصدق الله بها عليكم» : حكم عليكم؛ لأنَّ التصدق من الله فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط؛ كالعفو من الله تعالى؛ لأنَّ هذه الصدقة واجبة في الذمة، وليس لها حكم المال، فتكون إسقاطًا محضًا، فلا يرتد بالرد؛ كالصدقة بالقصاص، والطلاق، والعتاق يكون إسقاطًا لا يرتد بالرد، فكذا هذا.
وأمَّا حديث الدارقطني عن عائشة؛ فقد رواه البيهقي عن طلحة بن عمرو، ودلهم بن صالح، والمغيرة بن زياد، وثلاثتهم ضعفاء، عن عطاء، عن عائشة كما قاله البيهقي، وقال: والصحيح عن عائشة موقوف، ولا يخفى أنه معارض بما قدمناه عن حديث البخاري، ومسلم، وغيرهما، وهو لا يقاوم ما ذكر في «الصحيحين»، فلا دليل فيه له على أن الروايات عن عائشة متعارضة، والصحيح منها في ذكر في هذا «الجامع الصحيح»، ويجوز أنها كانت تنتقل من بيت بعض الأزواج إلى بيت بعض، فلم تكن مسافرة شرعًا، ولئن صح؛ فمحمول على إتمام الأركان، يدل عليه: أنه عليه السَّلام صلى الظهر بأهل مكة عام حجة الوداع ركعتين، ثم أمر مناديًا ينادي: (يا أهل مكة؛ أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر)، فلو كان فرض المسافر أربعًا؛ لم يحرمهم فضيلة الجماعة معه عليه السَّلام، وقياسه على الصوم فاسد؛ لأنَّ ترك الشيء لا إلى بدل دليل الفعلية، وفيه بدل؛ وهو القضاء بالنص، فلا يلزمنا، ولأن جهة اليسر فيه مترددة غير متعينة في القصر؛ لما عرف في الأصول، فيخير وجهة اليسر متعينة في القصر، فلم يتوجه التخيير؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن معنى (فرضت الصلاة)؛ أي: ليلة الإسراء حين فرضت الصلوات الخمس فرضت ركعتين، ثم زيدت في صلاة الحضر بعد ذلك، فتكون الزيادة في عدد الركعات، وهذا هو المروي عن بعض رواة هذا الحديث عن عائشة، وممن رواه هكذا الحسن والشعبي، وأن الزيادة في الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقد ذكره البخاري من رواية معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ففرضت أربعًا)، فإن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين؛ فله ذلك، وإن اختار أن يكون أربعًا؛ فله ذلك.
ويحتمل أن معنى قولها: (فرضت الصلاة) : قدرت، ثم تركت صلاة السفر على هيئتها لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار.
قلت: وهذا كله ممنوع، ولا شيء من الحديث يدل عليه، بل معنى قولها: (فرضت الصلاة ركعتين) : قبل الإسراء؛ لأنَّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها، وقد جاء ذلك بالنص؛ حيث قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: ١٣٠]، فالزيادة إنَّما كانت في عدد الصلوات.
وقوله: (وهو المروي...) إلى آخره: قد علمت أن الروايات عن عائشة قد تعارضت، وقولها: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر عليه السَّلام، ففرضت أربعًا)؛ معناه: أنه يجوز ترك الركعتين الأخيريين، فلا بد يلزمه، ولا إثم يلحقه، وكان تطوعًا؛ كسائر التطوعات، وهذا معنى قولهم: إن الشفع الثاني لا يقضى، ولا يأثم بتركه.
وقوله: (فإن اختار...) إلى آخره: ممنوع، بل يتحتم على المسافر القصر؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: (صلاة المسافر ركعتان، وصلان الفجر ركعتان، فمن خالف السنة؛ فقد كفر)؛ يريد: كفران النعمة، ولما قدمناه من الأحاديث الدالة على وجوب القصر في السفر؛ فليحفظ.
وزعم ابن حجر أن الحنفية ألزموا على قاعدتهم فيما إذا تعارض رأي الصحابي روايته؛ فالعبرة بما رأى بأنه ثبت عن عائشة: أنها كانت تتم في السفر، ورده إمام الشَّارحين فقال: قاعدة الحنفية على أصلها، ولا يلزم من إتمام عائشة في السفر النقض على القاعدة؛ لأنَّ عائشة ترى القصر جائزًا، والإتمام جائزًا، فأخذت بأحد الجائزين، وإنما يرد على قاعدتنا ما ذكره أن لو كانت عائشة تمنع الإتمام؛ فافهم.
وكذلك الجواب في إتمام عثمان بن عفان، وقيل: لأنَّ عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم، فكأنَّهما كانا في منازلهما، ورد: بأنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان أولى بذلك منهما، وقيل: لأنَّ عثمان تأهل بمكة، ورد: بأنه عليه السَّلام سافر بأزواجه، وقصر الصلاة، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه ليلًا يظنون