فيه عين ماء مزن، فتوضأ جبريل والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ينظر، فرجع عليه السَّلام فأخذ بيد خديجة، ثم أتى بها العين فتوضأ، كما توضأ جبريل، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل عليهما السلام (ركعتين ركعتين) بالتكرار؛ ليفيد عموم التثنية لكل صلاة؛ لأنَّ القاعدة في كلام العرب أن تكرر الاسم المراد تقسيم الشيء عليه، ولولاه؛ لكان فيه إيهام أن الفريضة في الحضر والسفر ما كانت إلا فرد ركعتين فقط، وانتصاب قوله:(ركعتين) على الحالية، والتكرار في الحقيقة عبارة عن كلمة واحدة؛ نحو: مثنى، ونظيره قولك: هذا مزٌّ؛ أي: قائم مقام الحلو والحامض (في الحضر والسفر) إلا المغرب، فإنها ثلاث، كما ذكرناه من رواية أحمد والبيهقي، (فأُقِرت صلاة السفر)؛ بضم الهمزة في (أقرت)، وكسر القاف؛ أي: بقيت على حالها ركعتين ركعتين، والضمير المرفوع في (أقر) يعود على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه هو المشرع المقر لها على ذلك، وهو أمر منه عليه السَّلام، والأمر للوجوب، فاقتضى أن يكون القصر في السفر عزيمة؛ يعني: واجبًا، وهو مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، والجمهور، وخالفهم الشافعي، فزعم أنه رخصة، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا صلى المسافر أربعًا ولم يقعد على رأس الركعتين؛ فسدت صلاته عندنا؛ لاتصال النافلة قبل كمال أركانها، وإن قعد في آخر الركعة الثانية قدر التشهد؛ أجزأته وصحت وصارت الأخرييان له نافلة، لكنه يصير مسيئًا بتأخير السلام، وعنده: هو مخير، إن شاء؛ أتم، وإن شاء؛ اكتفى على القصر.
(وزيد في صلاة الحضر) : يعني: زيد فيها حتى تكملت خمسًا، فتكون الزيادة في عدد الصلوات، ويكون قولها:(فرضت الصلاة ركعتين)؛ يعني: قبل الإسراء؛ لأنَّ الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ويشهد لذلك قوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}[غافر: ٥٥]، قاله أبو إسحاق الحربي، ويحيى بن سلام، وغيرهما.
قلت: ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}[طه: ١٣٠]، وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه: عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «فإن استطعتم ألَّا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها؛ فافعلوا»، ثم قرأ هذه الآية، كذا في «تفسير» الإمام الفقيه أبي الليث رحمه الله، وهذا الحديث من مراسيل السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنَّها لم تدرك القصة، ويحتمل أن تكون أخذت ذلك من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو من صحابي آخر، وعلى كل حال؛ فهو حجة؛ لأنَّ هذا مما لا مجال للرأي فيه، وهو حجة قوية ومحجة مستقيمة لما ذهب إليه الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: من أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، ويدل عليه ما رواه مسلم في «صحيحه» عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلَّى الله عليه وسلَّم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة).
ورواه الطبراني في «معجمه» بلفظ: (افترض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعًا)، ويدل عليه أيضًا ما رواه النسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم)، ورواه أيضًا ابن حبان في «صحيحه»، ولم يقدحه في شيء.
وقول النسائي:(فيه انقطاع؛ لأنَّ ابن أبي ليلى لم يسمعه من عمر بن الخطاب) : مردود؛ لأنَّ إمام هذه الصنعة مسلم بن الحجاج القشيري حكم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى من عمر رضي الله عنه، وصرح في بعض طرقه، فقال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت عمر بن الخطاب؛ فذكره، ويؤيد ذلك: ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في «مسنده» عن الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت: أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب... ؛ فذكره، فهذا يدل على أن القصر في السفر عزيمة؛ أي: واجب، وإليه ذهب علماء أكثر السلف، وفقهاء الأمصار، وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة.
وقال حماد بن أبي سليمان: من صلى في السفر أربعًا؛ يعيد صلاته، وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت، وقال أحمد: السنة ركعتان، وقال الخطابي: الأولى أن يقصر المسافر الصلاة؛ لأنَّهم أجمعوا على جوازها إذا قصر، واختلفوا فيها إذا أتم، والإجماع مقدم على الاختلاف، ويدل لما قاله الجمهور: ما في «البخاري» و «مسلم» عن حفص بن عاصم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صحبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر رضي الله عنه في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عثمان بن عفان رضي الله عنه في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: ٢١].
ولا يخفى أن المواظبة على ذلك تدل على الوجوب، فلهذا قال الجمهور: إن القصر في السفر واجب، وقال الشافعي: القصر في السفر رخصة، وهو رواية عن مالك وأحمد، وتعلق بقوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}؛ لأنَّ نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر ينبئ عن تمام سابق، وبما أخرجه أبو داود بإسناده عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله تعالى:{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء: ١٠١]، فقد ذهب ذلك اليوم، فقال: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال:«صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان؛ يعني: فالمفروض الأربع إلا أنه رخص بأداء ركعتين.
وبما أخرجه الدارقطني عن عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقصر في