ضعيف، وروى الترمذي في «الشمائل» والنسائي في «الكبرى» من طريق سالم بن عبيد الأشجعي عن أبي بكر الصديق أنه قيل له: وأين دفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: «في المكان الذي قبض الله روحه فيه، فإنَّه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب»، وإسناده صحيح، ولكنَّه موقوف، وحديث ابن ماجه أكثر تصريحًا في المقصود، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: وحديث ابن ماجه له طرق أخرى مرسلة، ذكرها البيهقي في «الدلائل»؛ فافهم.
وقال ابن حجر: إذا حُمِل دفنه عليه السَّلام على الاختصاص؛ لم يَبْعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متجه، لأنَّ استمرار الدفن في البيوت ربما صيَّرها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر»؛ فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: لا نسلِّم هذا الاقتضاء من ظاهر اللفظ، بل المعنى الذي يدلُّ عليه ظاهر اللفظ: لا تجعلوا بيوتكم خالية عن الصلاة؛ كالمقابر، فإنَّها ليست بمحلٍّ للعبادة، ولهذا احتجَّت به طائفة على كراهة الصلاة في المقابر، انتهى.
قلت: فهو نظير حديث الباب بلا فرق، وقول ابن حجر: إذا حُمل دفنه... إلى آخره؛ ظاهره التبرُّؤ منه مع التردُّد فيه، والحال أنَّ هذا الحمل متعين؛ فإنَّ دليل الخصوصية موجود، كما صرَّح به في حديث ابن ماجه، والترمذي، والنسائي، فلا وجه للتردُّد، ونَهي غيره عن ذلك متعين أيضًا؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: قيل: هذا الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأنَّها في كراهة الصلاة في المقابر، والمراد من الحديث: ألَّا يكونوا في بيوتهم كالأموات في القبور؛ حيث انقطعت عنهم الأعمال، وارتفعت التكاليف، وهو غير متعرِّض لصلاة الأحياء في ظواهر المقابر، ولهذا قال: «لا تتخذوها قبورًا»، ولم يقل: مقابر، انتهى.
وقال الخطابي: في الحديث دليل على أنَّ الصلاة لا تجوز في المقابر، وتبعه البغوي، ونقل ابن المنذر عن أهل العلم: أنَّهم استدلوا بهذا الحديث على أنَّ المقبرة ليست بموضع للصلاة، انتهى.
قال العجلوني: وعلى هذا حمله البخاري، فترجم بكراهة الصلاة في المقابر، انتهى.
قلت: وفيه بُعد؛ فإن الحديث لا يدل على ما ذكره؛ لأنَّ معناه: لا تجعلوا بيوتكم خالية عن الصلاة؛ كالمقابر، ولهذا اعترض على الخطابيِّ إمامُ الشَّارحين فقال: الحديث لا يدلُّ على هذا، بل الترجمة تساعده، انتهى.
يعني: لا كلام لنا في الترجمة بدون الحديث، بل لا بدَّ من بيان الاستدلال للترجمة، وما زعمه العجلوني من هذا الحمل ممنوع؛ لأنَّ بين عدم الجواز وبين الكراهة فرقًا، فإن الجوازَ يقال في الذي يحرم فعله، والكراهة فيما يجوز فعله، لكنَّه خلاف الأولى، على أنَّ ما ذكره ابن المنذر ليس بشيء؛ لأنَّه إذا كان استدلالهم بهذا الحديث؛ فالحديث لا يدلُّ لهم؛ لما علمت من معناه، وإن كان بغيره؛ فربما دل عليه أحاديث غيره.
وقال الإسماعيلي: هذا الحديث يدلُّ على النهي عن الصلاة في القبر لا في المقابر، واعترضه ابن حجر بأنَّه قد ورد بلفظ: المقابر، كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر (١)» انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا عجيب! كيف يقال: حديث يرويه غيره بأنَّه مطابق لما يترجم به، انتهى.
قلت: فهو لا ينهض دليلًا؛ لأنَّه قد رواه مسلم، والبخاري لو كان معتمدًا عليه؛ لاحتج به، فعدم ذكره له دليل على أنه لم يستدلَّ به؛ فافهم.
وقال السفاقسي: إن البخاري تأوَّل هذا الحديث على منع الصلاة في المقابر، ولهذا ترجم به، وليس كذلك؛ لأنَّ منع الصلاة في المقابر أو جوازها لا يفهم من الحديث، واعترضه ابن حجر فقال: إن أراد أنَّه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق؛ فمُسلَّم، وإن ادعى نفي ذلك مطلقًا؛ فلا؛ فقد قدمنا وجه استنباطه، انتهى.
قلت: حيث قال: استنبط من الحديث أنَّ القبور ليست بمحل العبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة، وكأنه أشار إلى ما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد مرفوعًا: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» انتهى.
قلت: وقد ردَّه إمام الشَّارحين، فقال: دعواه بأنَّ البخاري استنبط كذا، وأنَّه أشار إلى حديث أبي سعيد أعجب وأغرب من الأول؛ لأنَّ معنى قوله عليه السَّلام: «لا تتخذوها قبورًا» : لا تتخذوها خالية من الصلاة وتلاوة القرآن؛ كالقبور؛ حيث لا يُصلَّى فيها ولا يقرأ القرآن عندها، ويدلُّ على هذا ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سابط عن أبيه يرفعه: «نوِّروا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتَّخذوها قبورًا، كما اتخذها اليهود والنصارى، فإنَّ البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة، وتُدحض عنه الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يَضيق على أهله، ويقلُّ خيره، وتنفر منه الملائكة، وتحضر فيه الشياطين» انتهى.
وأيضًا، فإنَّ معنى هذا على التشبيه البليغ، فحذفت منه أداة التشبيه؛ لأنَّ معناه: لا تجعلوها مثل القبور؛ حيث لا يصلى فيها، ولا دلالة بهذا أصلًا على أنَّها ليست بمحل للعبادة بنوع من أنواع الدلالات اللفظية، انتهى كلام إمام الشَّارحين.
قلت: وهو في غاية من الحسن، ويدل عليه أيضًا ما في رواية مسلم: «مَثَل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمَثَل الحي والميت»؛ فافهم.
(١) في الأصل: (مقابرًا)، وليس بصحيح.