للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وإسكانها، وبنيت؛ لتضمُّنها معنى: مذ وإلى؛ إذ المعنى: مذ أن خلقت إلى الآن، وإنَّما بنيت على حركة؛ لئلَّا يلتقي ساكنان، وعلى الضَّمَّة تشبيهًا بالغايات، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

(أفظعَ)؛ بالنصب، صفة لقوله: منظرًا، وفيه حذف تقديره: فلم أرَ منظرًا أفظع، مثل منظر اليوم، وأفْظَع: بالفاء الساكنة، قبلها همزة، وبالظاء المشالة، آخره عين مهملة؛ أفعل تفضيل، وصلته محذوفة؛ أي: منه، نحو قوله تعالى: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: ٣٤] أو أفظع؛ بمعنى: فظيع، مثل أكبر بمعنى: كبير، والفظيع: الشنيع؛ الشديد المجاوز المقدار، يقال: فظُع الأمر- بالضمِّ- فظاعة فهو فظيع؛ أي: شديد شنيع جاوز المقدار، وكذلك: أفظع الأمر فهو منفظع، وأُفظِعَ الأمر -على ما لم يسمَّ فاعله-؛ أي: نزل به أمر عظيم، فإن قلت: أفظع -أفعل- ولا يستعمل إلا بـ (من)، قلت: أفظع هنا بمعنى: فظيع؛ فلا يحتاج إلى (من) أو يكون على بابه، وحذف منه كما في: (الله أكبر)؛ أي: أكبر من كل شيء، كذا قرره إمام الشَّارحين بزيادة.

ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إنَّه عليه السَّلام شاهد النار وهو في صلاته، وفيه كلام: قال ابن بطال: (الصلاة جائزة إلى كل شيء، إذا لم يقصد الصلاة إليه، بل قصد بها الله تعالى والسجود لوجهه خالصًا، ولا يضره استقبال شيء من المعبودات وغيرها، كما لم يضرَّه عليه السَّلام ما رآه في قبلته) انتهى.

قلت: لم يتعرض لكون ذلك مكروهًا أم لا، كما أنَّ المؤلف أجمل ترجمته، ولم يبيِّن أنَّه يكره ذلك أو لا يكره، لكنَّ إيراده الحديثين المذكورين في الباب يدلُّ: على احتمال عدم الكراهة؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يصلي صلاة مكروهة، وقد يقال عليه: إن صلاته عليه السَّلام لا توصف بالكراهة؛ لكونه هو المشرع، ولهذا قال إمام الشَّارحين: لا يتم الاستدلال بهذا للمؤلف من وجوه:

الأول: ما ذكره القاضي السروجي في «شرح الهداية» فقال: (لا دلالة في هذا الحديث على عدم الكراهة؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «أُريت النار» ولا يلزم أن تكون أمامه متوجهًا إليها، بل يجوز أن تكون عن يمينه أو يساره أو غير ذلك).

الوجه الثاني: ما ذكره هو أيضًا فقال: (ويحتمل أن يكون ذلك وقع له قبل شروعه في الصلاة) انتهى.

الوجه الثالث: ما ذكره الإسماعيلي بقوله: (ليس ما أراه الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام من النار حين أطلعه عليها بمنزلة نار يتوجه المرء إليها وهي معبودة لقوم، ولا حكم ما أُري ليخبرهم كحكم من وضع الشيء بين يديه أو رآه قائمًا موضوعًا، فجعله أمام مصلاه وقبلته).

الوجه الرابع: ما ذكره السفاقسي: (ليس في الحديث ما بوب عليه؛ لأنَّه لم يفعله مختارًا، وإنَّما عرض ذلك؛ لمعنى أراده الله تعالى، ورؤيته عليه السَّلام للنار رؤية عين، كشف الله عنها فأراه إياها، وكذلك الجنة، كما كشف له عن المسجد الأقصى) انتهى.

وقد انتهت الجهالة لابن حجر، فأجاب عن ذلك حيث قال: كأنَّ البخاري كوشف بهذا الاعتراض فعجَّل بالجواب عنه حيث صدر الباب بالمعلَّق عن أنس، ففيه: «عرضت علي النار وأنا أصلي»، وثنَّى بحديث ابن عبَّاس وفيه ما يقتضي أنه رآها أمامه؛ حيث قالوا له بعد انصرافه: يا رسول الله؛ رأيناك تناولت شيئًا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت؛ أي: تأخَّرت إلى خلف، فأجابهم: بأنَّ ذلك بسبب كونه رأى النار، ولا فرق بين القريب والبعيد من المصلي؛ لما في حديث أنس المعلَّق هنا، والموصول في «التوحيد» من قوله: «لقد عرضت علي الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط» انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: هذا كلام تمجُّه الأسماع، وتستمجه الطباع، وانظر إلى هذا الأمر الغريب العجيب؛ شخص يكاشف اعتراض شخص يأتي بعده بمدة مقدار خمس مئة سنة، أو أكثر، ويجيب عنه بتصدير هذا الباب الذي فيه حديث أنس معلقًا، وحديث ابن عبَّاس موصولًا، ومع هذا لا يتم الجواب بما ذكره، ولا يتم الاستدلال به للبخاري، وبيان ذلك: أنَّ قوله: «وأنا أصلي» في حديث أنس، يحتمل أن يكون المعنى: وأنا أريد الصلاة، ولا مانع من هذا التقدير، وأما تناوله الشيء وتأخره إلى خَلْف في حديث ابن عبَّاس؛ لا يستلزم أن يكون ذلك بسبب رؤيته النار أمامه، ولا يستحيل أن يكون ذلك بسبب رؤيته إياها من يمينه أو شماله أو غير ذلك.

وقوله وفي (١) جوابه: (أنَّ ذلك بسبب كونه رأى النار)؛ مسلَّم أن ذلك كان بسبب كونه أُري النار، ولكن لا نسلِّم أنَّه كان بسبب كون رؤيته النار أمامه، ولئن سلمنا؛ فنقول: لنا جوابان آخران غير الأربعة المذكورة:

أحدهما: أنَّه عليه السَّلام أريها في جهنم، وبينه وبينها ما لا يحصى من بعد المسافة، فعدم كراهة صلاته عليه السَّلام كان لذلك.

والآخر: يجوز أن يكون ذلك منه عليه السَّلام، رؤية علم روحي باطلاعه وتعريفه من أمورها تفصيلًا ما لم يعرفه قبل ذلك) انتهى كلامه رضي الله عنه

واعترضه العجلوني، فزاد في الطنبور نغمة حيث قال: (وقوله: «انظر إلى هذا الأمر الغريب...» إلى آخره، لعلَّه نظير الفنقلة من المؤلفين، وقوله: «يحتمل أن يكون المعنى...» إلى آخره، انظر ارتكابه خلاف الظاهر، لا سيما في الأول من غير سبب، وقوله: «ولئن سلمنا...» إلى آخره كأنَّه غفل عما للمؤلف في «التوحيد»، وفيه: «لقد عُرضت عليَّ الجنة والنار أنفًا في عرض هذا الحائط»، فتأمل منصفًا، ولا تكن في الأمور متعسِّفًا) انتهى.

قلت: لقد تعسَّف العجلوني فيما قاله، ولم يُنصِف، فهو مثل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: ٤٤]

لا تنه عن خلق وتأتي مثله... . . . . . . . . . . . . . .

فقوله: (لعله نظير الفنقلة من المؤلفين)؛ كلام بارد، وكيف ينسب مثل هذا الكلام إلى المؤلفين؟! فإن الفنقلة: الإتيان باللفظ على غير صيغته الأولى بدون تغيير المعنى، وهذا


(١) تكرر في الأصل: (وفي).

<<  <   >  >>