للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بعث الله ملكًا، فقال: يا رب؛ مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجها الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة؛ قال: يا رب؛ فما صفة هذه النطفة؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، وهو موقوف لفظًا مرفوع حكمًا؛ لأنَّ الإخبار عن شيء لا يدركه العقل محمول على السماع) انتهى كلامه رحمه الباري

(قال) أي: الملك: (أذكر) هو (أم أنثى؟) فـ (ذكر) مبتدأ أو خبر، وعلى كونه خبرًا تكون لفظة (هو) المقدرة مبتدأ، ولا يقال: النكرة لا تقع مبتدأ؛ لأنَّ فيه من المسوغ لوقوعها مبتدأ هي كونها قد تخصصت بثبوت أحدهما؛ إذ السؤال فيه عن التعيين؛ فصلح الابتداء به وهو من جملة المخصصات؛ لوقوع المبتدأ نكرة، وفي رواية الأصيلي: (أذكرًا)؛ بالنصب، ووجهها إن صحت الرواية بها؛ أي: أتريد أو تخلق ذكرًا؟ كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (أشقي) هو؛ أي: عاصي لك يا رب (أم سَعِيْد) أي: مطيع لك، فـ: (شقي) مبتدأ أوخبر، كما سبق، وسوغ الابتداء به (١) وإن كان نكرة؛ لتخصيصه بثبوت أحد الأمرين؛ لأنَّ السؤال فيه عن التعيين، وفي رواية الأصيلي: (شقيًّا أم سَعِيْدًا)؛ بالنصب على تقدير: أتريد أو تخلق؟

فإن قلت: (أم) المتصلة ملزومة لهمزة الاستفهام، فأين هي؟

قلت: هي مقدرة، ووجودها في قرينتها يدل عليه، كما في قول الشاعر:

بسبع رمين الخمر أم بثمان... . . . . . . . . . .

أي: أبسبع، انتهى.

(فما الرزق) أي: الحظ؛ لأنَّ الرزق في كلام العرب: الحظ، قال عز وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: ٨٢]؛ أي: حظكم من هذا الأمر، والحظ: هو نصيب الرجل، وما هو خاص به دون غيره، وقيل: الرزق: كل شيء يؤكل، أو يستعمل، وهذا باطل؛ لأنَّ الله تعالى أمرنا بأن ننفق ما رزقنا، فقال عز وجل: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} [المنافقون: ١٠]، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل؛ لما أمكن إنفاقه، وقيل: الرزق: هو ما يملك وهو لا يملك الولد والزوجة، وأما في عرف الشرع؛ فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسن البصري: الرزق: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره؛ أي: منعه من الانتفاع به، ولما فسرت المعتزلة الرزق بهذا؛ قالوا: الحرام لا يكون رزقًا، وقال أهل السنة: الحرام رزق؛ لأنَّه في أصل اللغة: الحظ والنصيب لما ذكرنا، فما انتفع بالحرام؛ فذلك الحرام حظًّا له ونصيبًا، فوجب أن يكون رزقًا، وأيضًا قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقول طول عمره لم يأكل من رزقه شيئًا، كذا قرره في «عمدة القاري»، (وما الأجل) ويروى: (والأجل)؛ بدون كلمة (ما (٢))، و (الأجل) : هو الزمان الذي علم الله أن الشخص يموت فيه، أو مدة حياته؛ لأنَّه يطلق على غاية المدة وعلى المدة، كذا في «عمدة القاري»، (فيكتب) على صيغة المعلوم، قيل: الضمير الذي هو فاعله هو الله تعالى، وقيل: يرجع إلى الملك، ويروى على صيغة المجهول، وهذه الكتابة يجوز أن تكون حقيقة؛ لأنَّها أمر ممكن، والله على كل شيء قدير، ويجوز أن تكون مجازًا عن التقدير، كذا قرره إمام الشارحين، ثم قال: (وبيان هذا في حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود يرفعه: «أن النطفة إذا استقرت في الرحم؛ أخذها الملك بكفه، قال: أي رب؛ ذكر أم أنثى؟ ما الأمر؟ بأي أرض تموت؟ وقال له: انطلق إلى أم الكتاب؛ فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد صفتها في أم الكتاب») انتهى، وفي رواية الأصيلي: (قال: فيكتب) (في بطن أمه) ظرف لقوله: (يكتب) وهو المكتوب فيه، والشخص هو المكتوب عليه، كما تقول: كتبت في الدار، فإن في الدار ظرف؛ لقوله: كتبت، والمكتوب عليه خارج عن ذلك؛ والتقدير أزلي: وهو أمر عقلي محض، ويسمى قضاء، والحاصل في البطن تعلقه بالمحل الموجود، ويسمى قدرًا، والمكتوب: هو الأمور الأربعة المذكورة، كذا في «عمدة القاري».

وقد أوعدناك في اختلاف الرواية في بعثة الملك إلى الرحم، فظاهر الحديث هنا: يدل على أن بعثة الملك إليه عند وقوع النطفة في الرحم، وذكر في الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سَعِيْد»، وظاهر هذا: إرسال الملك بعد الأربعين الرابعة، وفي رواية: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يا رب؛ شقي أم سَعِيْد؟»، وعند مسلم: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون، أو ثلاثة وأربعون، أو خمسة وأربعون»، وفي أخرى: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة؛ بعث الله إليها ملكًا يصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها»، وفي رواية حذيفة بن أُسَيْد: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك»، وفي أخرى: «إن ملكًا وكل بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئًا؛ يأذن له لبضع وأربعين ليلة»، وجمع العلماء بين هذا الاختلاف بأن الملائكة لازمة ومراعية لحال النطفة في أوقاتها، وأنه يقول: هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة في أوقاتها، وكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى وهو أعلم، ولكلام الملك وتصرفه أوقات؛ أحدها: حين يكون نطفة، ثم ينقلها علقة وهو أول علم الملك أنه ولد؛ إذ ليس كل نطفة تصير ولدًا، وذلك عقيب الأربعين الأولى، وحينئذٍ يكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سَعِيْد، ثم للملك فيه تصرف آخر، وهو تصويره وخلق سمعه، وبصره، وكونه ذكرًا أو أنثى، وذلك إنَّما يكون في مدة الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه؛ لأنَّ النفخ لا يكون إلا بعد تمام صورته، والرواية السالفة (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة) ليست على ظاهره، بل المراد تصورها، وخلق سمعها إلى آخره، وأنه يكتب ذلك، ثم يفعله في وقت آخر؛ لأنَّ التصور عقيب الأربعين الثالثة حتى يكمل له أربعة أشهر، ودخوله في الخامس.

واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وقال الراغب: (ذكر الأطباء: أن الولد إذا كان ذكرًا؛ يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإن كان أنثى؛ بعد أربعة أشهر).

فإن قلت: وقع في رواية البخاري: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وشقي أم سَعِيْد،


(١) (به) : تكرر في الأصل.
(٢) في الأصل: (ماء)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>