جميع أفعال أصحابه؛ لأنَّ ذلك أمر عسر، ولأن الغزوة حال فرار لا حال قرار، بل الظاهر: أن الصحابي كان بعيدًا عن النبيِّ عليه السَّلام والقوم؛ بدليل أن الصحابة إذا أراد أحدهم البراز أو الغائط؛ ذهب بعيدًا عن الناس، فالصحابي أبعد عن القوم، وفعَلَ ذلك إمَّا على طريق الذهول أو كان غير عالم وهو الظاهر، ولعله علم بعد ذلك بسؤال النبيِّ عليه السَّلام عن ذلك، وقضى صلاته، وهو الظاهر من حاله، كما لا يخفى.
وقوله: (ودعواه أن التحقيق...) إلخ ممنوع، بل هذا هو الصواب؛ لأنَّ الدم لا يخلو إمَّا أن يصيب البدن أو الثوب، ولا ثالث لهما أصلًا، فهو لا يحتمل خلافه، فهذا دليل على أنه قد تلطَّخ بالدم في بدنه وثوبه؛ لأنَّ خروج الدم وسيلانه لا بدَّ إلا أن يصيب البدن والثوب، كما لا يخفى.
فقوله: (لا مستند له...) إلخ، بل هو دليل ظاهر، وحجَّة قويَّة لما قاله، وأيُّ دليل ومسند هذا القائل الذي قال ولا يدري ما يقول؟
وقوله: (إلا الاحتمال...) إل، بل هذا الاحتمال هو الصواب، ولا يوجد احتمال يخالفه، ومن ادَّعاه؛ فهو تعصُّب وتعنُّت.
وقوله: (هو من محل النزاع...) إلخ ممنوع، فإن الخصم يزعم أن الصَّلاة والدم في الثوب والبدن غير صحيحة.
وقوله: (بل يحتمل...) إلخ هذا ممنوع قطعًا؛ لأنَّه متى خرج الدم من بدن الإنسان لا بدَّ وأن يصيبه منه شيء لبدنه وثوبه لا سيما الجراحة والكلام فيها، فإنه قطعًا يحصل للشخص تلطُّخ بالدماء في أثوابه وغالب بدنه، وهذا كالمتحقق لا يحتمل خلافه.
وقوله: (وإذا كان...) إلخ ممنوع، فإنَّه بهذه الحالة يلزم النقض بخروج الدم؛ لأنَّه لا يلزم من مضيِّه فيها عدم النقض بخروجه.
والتحقيق: أن يقال: إنَّه لم يعلم بخروج الدم حتى فرغ من صلاته، فلمَّا رآه؛ قضى صلاته؛ لفسادها بطروء الناقض بسؤاله عليه السَّلام عن ذلك، والله تعالى أعلم.
(وكان) وفي رواية: (قال: وكان) (ابن عمر)؛ أي: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، والضمير في (قال) يعود إلى المؤلف رحمه الله تعالى، مما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (إذا رأى في ثوبه) الذي هو لابسه (دمًا)؛ زائدًا على قدر الدرهم (وهو يصلي) : الواو للحال؛ أي: والحال أنه في الصَّلاة؛ (وضعه)؛ أي: ألقى ثوبه عنه، (ومضى في صلاته)؛ أي: بنى عليها، ففيه: دليل ظاهر على جواز البناء في الصَّلاة، وقال في «عمدة القاري» : هذا الأثر لا يطابق الترجمة؛ لأنَّ فيها ما إذا أصاب المصلي نجاسة وهو في الصَّلاة لا تفسد، وهذا الأثر يدل على أنَّ ابن عمر كان إذا رأى في ثوبه دمًا وهو في الصَّلاة؛ وضع ثوبه -بمعنى: ألقاه- ومضى في صلاته، فهذا صريح على أنَّ ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع إصابة النَّجاسة في ثوبه، والدليل على صحة ما قلنا: ما رواه ابن أبي شيبة من طريق برد من سنان، عن نافع، عن ابن عمر: (أنه كان إذا كان في الصَّلاة فرأى في ثوبه دمًا فاستطاع أن يضعه؛ وضعه، وإن لم يستطع؛ خرج فغسله، ثم جاء يبني على ما كان صلى) انتهى.
قلت: وهذا ظاهر، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.
لكنْ زعم ابن حجر تعصبًا: أن هذا الأثر يقتضي أن ابن عمر كان يرى التفرقة بين الابتداء والدوام.
وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: لا يقتضي هذا أصلًا، وإنما يدل على أنَّه كان لا يرى جواز الصَّلاة مع وجود النَّجاسة مع المصلي مطلقًا؛ أي: سواء كان في حال الابتداء أو في حال الدوام، وهذا حجَّة قويَّة للإمام الثاني أبي يوسف قاضي القضاة فيما ذهب إليه من أن المصلي إذا انتضح عليه البول أكثر من قدر الدرهم؛ ينصرف، ويغسله، ويبني على صلاته، وكذلك إذا ضرب رأسه أو صدمه شيء، فسال منه الدم) انتهى؛ أي: فإنه يبني على صلاته، فزعْمُ هذا الزاعم فاسد.
وزعم العجلوني أنَّ المفهوم من الأثر أنَّه إذا رأى قبل دخوله في الصَّلاة لا يفعل ما ذكر، بل لا يدخل أصلًا؛ لوجود النَّجاسة، وأمَّا إذا كان فيها؛ فإن سهل عليه إلقاؤه فورًا؛ ألقاه واستمر في صلاته، وإلا؛ قطعها؛ ليغسل تلك النَّجاسة، ثم يعود، فيبني.
قلت: وهذا زعم فاسد، وفهم بارد؛ لأنَّ الأثر المذكور الذي علمته لا يدل على هذا التفصيل أصلًا، فمن أين فهمه هذا الزاعم؟! وما هو إلا فهم فاسد، وإنما المفهوم صريحًا أن ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع إصابة النَّجاسة في ثوبه.
وقوله: (وأما إذا كان فيها...) إلخ ممنوع، فأيُّ دليل يدلُّ على هذا التفصيل، وإنما الذي دلَّ عليه الأثر المذكور: أن ابن عمر كان لا يرى جواز الصَّلاة مع وجود النَّجاسة مع المصلي مطلقًا؛ أي: سواء كان في حال الابتداء أو في حال الدوام.
وقوله: (وإلا قطعها...) إلخ هذا لا يُفهم من الأثر المذكور أصلًا، فمن أين ظهر له هذا التفصيل الفاسد؟! فإنه ليس في الأثر دليل على القطع، بل فيه دليل صريح على البناء وجوازه في الصَّلاة، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، فالفهم المذكور إنَّما نشأ للعجلوني من العصبية الباردة، والتعنت الزائدة.
وقد يقال: إن الأثر المذكور يفهم منه شيئان؛ أحدهما: أن ابن عمر رأى في ثوبه دمًا جامدًا زائدًا على قدر الدرهم وهو في الصَّلاة، فحين رآه؛ ألقاه عنه، فهو جائز، قال في «الظهيرية» : (لو ألقى الثوب المتنجس من غير حدثه وعليه غيره؛ أجزأه)، كذا في «البحر»، والثاني: أن ابن عمر رأى في ثوبه دمًا من جرح أصابه وهو في الصَّلاة، فبنى على صلاته، فهو جائز عند الإمام أبي يوسف، وأما عند الإمام الأعظم والإمام محمَّد: لا يبني، والفرق بينهم: أن الحدث إذا كان بصنع العباد؛ فإنه لا يبني عندهما، ويبني عنده، وما كان بغير صنع العباد؛ يبني اتفاقًا، فلو عضَّه زنبور مثلًا، أو أصابته شجَّةٌ، فسال منه دم؛ لا يبني؛ لأنَّه بصنع العباد، وعند أبي يوسف: يبني؛ لعدم صنع نفسه، ولو وقعت طوبة من سطح، أو سفرجلة من شجرة، أو تعثَّر بشيء موضوع في المسجد، فأدماه؛ قيل: يبني اتفاقًا؛ لعدم صنع العباد، وقيل: هو على الخلاف أيضًا، كذا في «التبيين» وغيره، ولو عطس أو تنحنح فسبقه الحدث بقوَّته؛ قيل: يبني، وقيل: لا يبني، وهو الصحيح، كما في «القهستاني» عن «الظهيريَّة».
واعلم: أن مسائل البناء عند سبق الحدث مروية عن عائشة، وابن عباس، وأبي بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وهؤلاء صحابة، وعن علقمة، وطاووس، وسالم بن عبد الله، وسَعِيْد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، ومكحول، وسَعِيْد بن المسيِّب رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء تابعون، وكفى بهم قدوة، كما أوضحه الإمام المحقق حيث أطلق كمال الدين بن الهمام في «فتح القدير» رضي الله عنه ورحمه، والله أعلم.
وزعم الشافعية أنه لا يبني، بل يستأنف، وهو مذهب مالك وأحمد، لكنْ قيَّده مالك بالوقت، فإن خرج؛ فلا قضاء.
وزعم العجلوني أن جماعة فرَّقوا بين الابتداء والدوام؛ كمُجَاهِد، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، فقالوا: إذا صلى بنجس لم يَعْلَمْه، ثم علمه بعد الصَّلاة؛ لا يعيد، وكذا إذا أصابه في الصَّلاة وهو يعلمه، واستدلوا بحديث أبي سَعِيْد الذي رواه أبو داود بسند صحيح، وقال الحاكم: إنه على شرط مسلم: بينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي بأصحابه؛ إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك؛ ألقَوا نعالهم، فلما قضى النبيُّ عليه السَّلام صلاته؛ قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟» قالوا: يا رسول الله؛ رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن جبريل أتاني، فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا» انتهى.
قلت: وهذا ذكره ابن بطال، فنقله هذا القائل عنه، والناقل والمنقول عنه مشهوران بالنَّقل الضعيف، فإنَّ هؤلاء الجماعة لم يثبت عنهم هذا الفرق الذي ذكره هذا القائل، بل المنقول المشهور عنهم: أن النَّجاسة تمنع صحة الصَّلاة سواء كانت في الابتداء أو في الدوام،