للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

في (منك)، وإن كانا مكانين؛ فلا؛ إذ اسم المكان لا يعمل؛ وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجًى إلا إليك) انتهى.

قلت: والأوجه المشهورة هي فتح الأول والثاني، وفتح الأول ونصب الثاني، وفتح الأول ورفع الثاني، ورفع الأول وفتح الثاني، ورفع الأول والثاني، ومع التنوين تسقط الألف، كما قدمنا وعلى كونهما مكانين؛ فـ (منك) حال من ضمير الخبر أو صفة لهما؛ فافهم.

(اللهم)؛ أي: يا الله، وسيأتي عند المؤلف في الأدعية بحذف (اللهم)؛ (آمنت)؛ أي: صدقت (بكتابك)؛ أي: القرآن، وقوله: (الذي أنزلت) صفته، وضمير المفعول محذوف؛ أي: أنزلته على نبيك محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما خصص الكتاب بالصفة؛ ليتناول جميع الكتب المنزلة.

فإن قلت: أين العموم ههنا حتى يجيء التخصيص؟

قلت: المفرد المضاف يفيد العموم؛ لأنَّ المعرف بالإضافة كالمعرف باللام يحتمل الجنس، والاستغراق، والعهد، فلفظ الكتاب المضاف هنا محتمل لجميع الكتب ولجنس الكتب، ولبعضها؛ كالقرآن، قالوا: وجميع المعارف كذلك، وقد قال جار الله الزمخشري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: ٦] : يجوز أن تكون للعهد، وأن يراد بهم ناس بأعيانهم؛ كأبي جهل، وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وأحزابهم، وأن تكون للجنس متناولًا منهم كل من صمم على كفره.

قلت: التحقيق أن الجمع المعرَّف تعريف الجنس؛ معناه: جماعة الآحاد، وهي أعم من أن يكون جميع الآحاد أو بعضها، فهو إذا أطلق؛ احتمل العموم والاستغراق، واحتمل الخصوص والحمل على واحد منها يتوقف على القرينة كما في المشترك، هذا ما ذهب إليه الزمخشري، وصاحب «المفتاح» ومن تبعهما، وهو خلاف ما ذهب إليه أئمة الأصول، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».

قلت: أي: من أن (اللام) تبطل معنى الجمعية، ويصير مدخولها؛ لاستغراق الأفراد؛ فتأمل.

(وبنبيك)؛ بالموحدة في أكثر النسخ، وفي بعضها بحذفها، ويؤيدها قوله: (ورسولك) بدونها، وكذا قوله: (ونبيك) الآتي، فإنه بدونها، وعند المؤلف في (الأدعية) بالموحدة؛ كأكثر النسخ هنا، والمراد به: محمَّد النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والخطاب فيه كسابقه لله عزَّ وجلَّ (الذي أرسلت)؛ أي: أرسلته، ويحتمل أن يراد كل نبي أرسله كما سبق في (بكتابك)، (فإن متَّ)؛ بفتح التاء، الخطاب للبراء، وليس المراد به وحده على التعيين، بل كل من يحصل ذلك؛ كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا} [الأنعام: ٢٧]، أو المراد المعيَّن، ويعلم حكم غيره بالقياس عليه، والظاهر: أن يقال الخطاب خاص أريد به عام؛ فافهم (من ليلتك؛ فأنت على الفطرة)؛ أي: على دين الإسلام، وقد تكون (الفطرة) بمعنى الخلقة؛ كقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠]، وبمعنى السنة؛ كقوله عليه السلام: «خمس من الفطرة...»؛ الحديث، وقال الطيبي: أي: مات على الدين القويم ملة إبراهيم عليه السلام أسلم واستسلم، وقال: أسلمت لرب العالمين، وجاء بقلب سليم، كذا في «عمدة القاري»، (واجعلهنَّ) أي: هذه الكلمات (آخر) وفي رواية الكشميهني: (من آخر) (ما تتكلم به) ولابن عساكر: (ما تكلم)؛ بحذف إحدى التاءين تخفيفًا، ورواية الكشميهني مبينة أنه لا يمتنع أن يقول بعدهن شيئًا من المشروع ذكره عند النوم، وهو كذلك، لكن الأكمل والأحسن جعلها آخرًا حقيقة وتسمية ما ذكر كلامًا بالنظر إلى اللغة والاصطلاح وإن كان لا يسمى في عرف الفقهاء في الإيمان كلامًا، وإنما يسمَّى ذكرًا ودعاء؛ فافهم، (قال)؛ أي: البَرَاء بن عازب: (فردَّدتها)؛ بتشديد الدال المهملة الأولى، وسكون الثالثة؛ لإدغامها في التاء؛ أي: كررت هذه الكلمات (على النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: لأحفظهن، (فلما بلغت)؛ أي: وصلت في القراءة: (اللهم؛ آمنت بكتابك الذي أنزلت) والمراد: بلغت آخر هذه الجملة، فلا يرد أن السياق يقتضي أن يقول: فلما بلغت (ونبيك) (وقلت: ورسولك) زاد الأصيلي: (الذي أرسلت) (قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا)؛ أي: لا تقل: ورسولك، بل قل: (ونبيك الذي أرسلت) حتى يجمع بين صفتيه؛ وهما الرسول والنبيُّ صريحًا وإن كان وصف الرسالة يستلزم النبوة، ويحتمل أن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ، وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ زيادة تبيين ليس في الآخر وإن كان يرادفه في الظاهر، ويحتمل أنه أوحى إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده؛ لأنَّه ذكر ودعاء، فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ويحتمل أنه ذكره؛ احترازًا ممن أرسل من غير نبوة؛ كجبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام؛ لأنَّهم رسل لا أنبياء، ويحتمل أن يكون رده دفعًا للتكرار؛ لأنَّه قال في الأولى: (وبنبيك الذي أرسلت)، فلو قال: (ورسولك)؛ لزم التكرار، ويحتمل أن النبيَّ (فعيل) بمعنى (مفعول) من النبأ، وهو الخبر؛ لأنَّه إنباء عن الله عز وجل؛ أي: أخبر، وقيل: إنه مشتق من النباوة: وهو الشيء المرتفع، ورد النبيُّ عليه السلام على البَرَاء؛ ليختلف اللفظان، ويجمع الثناء بين معنى الارتفاع والإرسال ويكون تعديدًا للنعمة في الحالين، وتعظيمًا للمنَّة على الوجهين، ويحتمل أن ألفاظه عليه السلام ينابيع الحكمة، وجوامع الكلم، فلو جوز أن يعبر عن كلامه بكلام غيره؛ سقطت فائدة النهاية في البلاغة التي أعطيها عليه السلام، وزعم ابن حجر: ويحتمل أن لفظ النبيِّ أمدح من لفظ الرسول؛ لأنَّه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل بخلاف لفظ النبي، فإنه لا اشتراك فيه عرفًا، وعلى هذا؛ فقول من قال: كل رسول نبي من غير عكس؛ لا يصح إطلاقه، انتهى.

ورده في «عمدة القاري» : بأن هذا غير موجه؛ لأنَّ لفظ النبيِّ كيف يكون أمدح وهو لا يستلزم الرسالة؟ بل لفظ الرسول أمدح؛ لأنَّه يسلتزم النبوة؛ فافهم.

وزعم القسطلاني بأن المعنى يختلف، فإنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولا عكسه.

قلت: وهو فاسد، بل يلزم من الرسالة النبوة، ألا ترى أن الرسول لا يرسل إليه إلا بعد أن يصير نبيًّا، على أن الاختلاف في التعبير من حيث الإطلاق، فإذا قيد بالبشر؛ يصح الكلام، ويحصل المرام.

قال الخطابي: (وفي الحديث حجة لمن منع رواية الحديث بالمعنى وهو قول ابن سيرين وغيره، فكان يذهب هذا المذهب أبو العباس النحوي ويقول: ما من لفظة من الألفاظ المتناظرة من كلامهم إلا وبينها وبين صاحبتها فرق وإن دق ولطف؛ كقولك: بلى ونعم).

قال في «عمدة القاري» : (هذا الباب فيه خلاف بين المحدثين وقد عرف في موضعه، ولكن لا حجة في هذا للمانعين؛ لأنَّه يحتمل الأوجه التي ذكرناها بخلاف غيره) انتهى.

وقد تبعه ابن حجر فقال: (ولا حجة لمن استدل به على أنه لا يجوز إبدال لفظ: (قال نبي الله) مثلًا في الرواية بلفظ: «قال رسول الله» وبالعكس، ولو جازت الرواية بالمعنى، وكذا لا حجة فيه لمن جوز الأول دون الثاني؛ لكون الأول أخص؛ لأنَّ الذات المخبر عنها في الرواية واحدة، فبأيِّ وصف وصفت به الذات من أوصافها؛ علم القصد بالمخبر عنه ولو تباينت معاني الصفات، بخلاف ما في حديث الباب؛ فإنه يحتمل ما تقدم من الأوجه) انتهى.

وإنما ختم كتاب (الوضوء) بهذا الحديث؛ لأنَّه آخر وضوء أمر به المكلف في اليقظة، ولقوله في الحديث: «واجعلهنَّ آخر ما تتكلم به»، فأشعر ذلك بختم الكتاب.

اللهم؛ اختم لنا بالوفاة على الإيمان، وارزقنا علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعافية من جميع البلايا، وتمام النعمة، والنصر على الأعداء، اللهم؛ أطل عمري بطاعتك، وكثر أولادي، ووفِّقهم لما تحب وترضى، واجعلنا وإياهم من الآمنين يا أرحم الراحمين.

وفي يوم الخامس عشر جماد أول سنة سبع وسبعين أمر الحكام أهل البلد أن يتهيؤوا لرفع التراب من حارة النصارى.

اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.

<<  <   >  >>