للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مثله صاحب «الخُلاصة» وغيره، ووجهه أنَّ الخوف هنا غير معتبر؛ لأنَّه مجرد وَهم؛ حيث لا يتحقق ذلك في الوضوء عادةً، قاله في «فتح القدير»، وقال في «النهر» : (يجوز التيمم للمحدث في المصر، واختاره صاحب «الأسرار»، وهو قول بعض علمائنا، لكن الأصح عدم جوازه للمحدث إجماعًا، إنَّما الخلاف في الجنب) انتهى.

(أو خاف العطش) وهذا غير مقتصر على الجُنُب الذي يخاف العطش، بل المحدث والجنب فيه سواء، قاله إمام الشَّارحين، قال في «منهل الطُلاب» : (وأما الماء المُحتاج إليه للعطش؛ فإنَّه يجوز مع وجوده التَّيمم)، قال في «البحر» : (لأنَّه مشغول بحاجته، والمشغول بالحاجة كالمعدوم سواء كان العطش لنفسه أو لكلبه، كما في «الدر المختار»، وقيَّده في «النهر» بكلب الماشية والصيد) انتهى.

ومفاده أنه لو لم يكن كذلك؛ لا يُعْطَى هذا الحكم، والظَّاهر أَنَّ كلب الحراسة للمنزل مثلهما، وفي «البحر» : (وعطش رفيقهُ ودابتهُ حالًا أو مآلًا؛ كعطشه وسواء كان المحتاج للعطش رفيقه المخالط له، أو آخر من أهل القافلة) انتهى.

وعطشُ دابة رفيقه كعطش دابته، كما صرَّح به العلامة نوح أفندي، وظاهره: أنَّ عطش كلب رفيقه كعطش كلبه، وقَيَّد ابن الكمال: عطش دوابه بتعذر حفظ الغسالة بعدم الإناء؛ يعني: فإذا كان عنده إناء يحفظ الماء به؛ يلزمه الوُضوء، وحِفظ الماء وسَقيه لِدابته وكلبه، ولا يجوز له التَّيمم، وتمامه في «منهل الطُلاب»، والله تعالى أعلم بالصَّواب.

وقوله: (يتيمم) جواب (إذا)، وفي رواية: (تيمم)؛ أي: مع وجود الماء لهذه الأعذار، كما ذكرناها، ومنها المرأة بين رجال، والرجل بين النساء؛ يتيممان ولا إعادة عليهما؛ لأنَّ المانع شرعي؛ وهو كشف العورة عند مَنْ لا يحل [له] رؤيتها، والمانع منه الحياء وخوف الله تعالى، وهما منه تعالى، وفي «المغني» لابن قدامة الحنبلي: (أو كان الماء عند جمع فُساق فخافت المرأة على نفسها الزِّنى؛ جاز لها التَّيمم)، وقال في «البحر» : (والماء المحتاج إليه لعجين كالمعدوم حكمًا، وكذا المحتاج إليه للطَّبخ إما لاتخاذ المرقة؛ فلا يتيمم، وسئل العلامة أبو السُّعود عما إذا احتاجه للقهوة؟ فأجاب: إن كان يلحقه بتركها مشقة؛ يتيمم، وإلا؛ فلا) انتهى.

وينبغي أن يقال في الطَّبيخ بالمرق سواء كان من أهل المدن أو القرى، وتمامه في «منهل الطُّلاب» ووجه المناسبة بين هذا الباب والذي قبله والذي بعده ظاهر؛ لأنَّ هذه الأبواب كلها في حكم التيمم.

(ويُذكر)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، وهو تعليق بصيغة التمريض، وقد وصله الحاكم، والدارقطنيُّ: (أَنَّ عَمْرو بن العاص) : هو أبو عبد الله عَمْرو بن العاص بن وائل بن هاشم القُرشي السَّهمي أميرُ مصر، قَدِمَ على النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في سنة ثمان قبل الفتح مُسلمًا، وهو من زُهَّاد قريش، ولَّاه عليه السَّلام على عُمَان ولم يزل عليها حتى قُبِضَ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، مات بمصر سنة ثلاث وأربعين على المشهور يوم عيد الفطر، وصلَّى عليه ابنه عبد الله، ثم صلَّى العيد بالناس (أجنبَ)؛ أي: صار جنبًا، فالهمزة للضرورة (في ليلةٍ باردةٍ) وفي رواية أبي داود: قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السَّلاسل)، وهي وراء وادي القرى بينها وبين المدينة عشرة أيام، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ بها ماء بأرض حذام، يقال له: السَّلاسل، وكانت الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، قال عمرو: (فأشفقت)؛ أي: خِفتُ إنِ اغتسلت أَنْ أهلك؛ (فتيمم) وفي رواية أبي داود: (فتيممت، ثُمَّ صليت بأصحابي الصُّبح)، (وتلا) وعند الأصيلي: (فتلا) أي: قوله تعالى: ({وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ})؛ أي: بإلقاء النفس في التهلكة أو بالنجع؛ كما يفعله المتصوفة، أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها، أو باقتراف ما يُذللها ويرديها، فإنَّه القتل الحقيقي للنفس، والمراد بالنجع: القتل، ففي «الصحاح» : (نجع نفسه نجعًا؛ أي: قتلها غمًّا؛ يعني: قتل نفسه تأسُّفًا وحزنًا على الشَّيء الفائت)؛ كأنه قيل: لا تقتلوا أنفسكم بالتحزُّن على ما فات عنكم من فضائل الأبرار، وإن كان ذلك لقصد الرياضة وتقوية جانب الروحانية؛ فإن الرياضة إنَّما تنفع وتفيد تقوية جانب الروحانية إذا كانت على قانون الشرع، فما يروى عن المتصوفة من حبس النفس أيامًا كثيرة على قصد الرياضة ومخالفة الهوى بحيث يؤدي ذلك إلى هلاكهم؛ فما هو إلا جَهالة محضة يُهْلِكون أنفسهم بلا فائدة، والمراد بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها: هو كالزنى بعد الإحصان، وقتل النفس المعصومة بغير حق، والردة، فإن من ارتكب واحدًا منها؛ فكأنه قتل نفسه، والمراد: باقتراف ما يذللها ويرديها؛ أي: من المعاصي والرُّكون إلى اللذات العاجلة، فإن اقترافها وإن لم يؤد إلى القتل الحسي؛ فإنه يؤدي إلى القتل الحقيقي للنفس، ({إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}) [النساء: ٢٩]؛ يعني: أنَّه كان بكم يا أُمة محمَّد النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رحيمًا لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه، فقد حمل عَمْرو بن العاص هذه الآية على معنى: لا تُباشروا ما يُخافُ منه أن يؤدي إلى هلاك أنفسكم، (فذُكر)؛ بضمِّ الذال المعجمة مبنيًّا للمجهول؛ أي: ما فعله عَمرو (للنَّبيِّ) الأعظم، وللأصيلي: (فَذُكر ذلك)؛ أي: ما فعله عَمرو للنَّبيِّ الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي رواية أبي داود: (فذَكروا)؛ أي: أصحاب عَمرو ذلك للنَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «يا عَمرو؛ صليتَ بأصحابك وأنت جنب؟»، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، (فلم يُعنفه)؛ أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك؛ يعني: لم يُنكر عليه، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (فلم يُعنف)؛ بدون الضمير حذف للعلم به؛ أي: لم يُعنف النَّبيُّ عَمْرًا على ذلك، ولم يُنكر عليه ما فعله [بعدم] تَعنيفه، وفي رواية أبي داود: (فضحك النَّبيُ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يقل شيئًا، فعدم تَعنيفه إياه وكذا ضَحِكه، وعدم إنكاره عليه دليلٌ على الجواز؛ والتقرير به دليلٌ على عدم إعادة الصَّلاة الَّتي صلاها بالتَّيمم في هذه الحالة، وهو حُجةٌ على من أوجب الإعادة، كما لا يخفى، وإنَّما ذكر المؤلف هذا

<<  <   >  >>