للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لكن متن الحديث واحد) انتهى، قلت: وما ذكر من أنَّ المرسِل زيد، والمرسَل بسر، والمرسل إليه أبو جهيم في هذا الحديث هو ما ذكره في «الموطأ» لم يختلف فيه، وتابعه سفيان الثَّوري عن أبي النَّضر عند مسلم، وابن ماجه، وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النَّضر فقال: عن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جُهيم إلى زيد بن خالد أسأله... ؛ فذكر هذا الحديث، قال ابن عبد البر: انقلب على ابن عيينة، وقال ابن معين: إنَّه خطأ، واعترضه ابن القطان، فقال: ليس بخطأ؛ لاحتمال أن يكون أبو جُهيم بعث بسرًا إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جُهيم، انتهى، قلت: وفيه أنَّه لم يذكر ذلك في المتن، فالاحتمال بعيد.

وزعم ابن حجر أن قولهم: أخطأ فلان، مبني على غلبة الظن، ولا يشترط الخطأ في نفس الأمر، انتهى.

قلت: لا يخفى أن غلبة الظن منزَّلة منزلة اليقين عند المحققين، وأمَّا نفس الأمر؛ فلا يطَّلع عليه إلا رب العزة جلَّ وعلا؛ فافهم، والله أعلم.

(يسأله) أي: يسأل أبا جُهيم: (ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: عن الذي سمعه (في) حكم الشخص (المار بين يدي المصلي؟)؛ أي: أمامه في موضع سجوده، أو بينه وبينه ثلاثة أذرع أو رمية حجر؛ أقوال للعلماء، والصَّواب: الأول كما علمت، (فقال أبو جُهيم) بالتصغير: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في حق المار المذكور: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه)؛ أي: من الإثم والخطيئة، وفي رواية الكشميهني: (ماذا عليه من الإثم)، وليست (١) هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره، وكذا في «الموطأ» ليست هذه الزيادة، وكذا في سائر المستندات والمستخرجات غير أنَّه وقع في «مصنف ابن أبي شيبة» : (ماذا عليه)؛ يعني: من الإثم، وعيب على الطَّبري؛ حيث عزا هذه الزيادة في (الأحكام) للبخاري، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال القسطلاني: (هذه الزيادة ثابتة في «اليونينية» من غير عزو) انتهى، وأنكر ابن الصلاح على من أثبتها، لكن قال النَّووي: في رواية رويناها في «الأربعين» : (ماذا عليه من الإثم) انتهى، قلت: وعلى كل فهي ثابتة، والمثبت مقدم على النافي.

وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن هذه الزيادة ذكرت في أصل «البخاري» حاشية، فظنها الكشميهني من الأصل؛ لأنَّه ليس من أهل العلم ولا الحفاظ، بل كان راوية، انتهى.

قلت: هذا متعسف؛ لأنَّه حيث ذكرت في الأصل؛ فلا ريب أنَّها منه، وظن الكشميهني معتبر، ويقال له: غلبة الظن، وهو بمنزلة اليقين، وكيف يزعم هذا القائل أنَّه ليس من أهل العلم ولا الحفاظ، وقد ذكر المحدثون: أن الرواي لا بد فيه من العدالة والإتقان والحفظ، فنفي العلم يستلزم الجهل، ونفي الحفظ يستلزم البلادة، وهما ينافي الراوي، وعليه فلا يجوز الرواية عنه، فكيف رُويت عنه الأحاديث الصَّحيحة؛ فانظر ما زعمه هذا القائل.

وقال إمامنا الشَّارح: (وكلمة «ما» : استفهام، ومحلها الرفع على الابتداء، وكلمة «ذا» : إشارة خبره، والأَولى أن تكون «ذا» موصولة؛ بدليل افتقاره إلى شيء بعده؛ لأنَّ تقديره: ماذا عليه من الإثم؟ ثم إن «ماذا عليه» : في محل نصبٍ سدَّ مسدَّ المفعولين لقوله: «لو يعلم»، وقد علق عمله بالاستفهام) انتهى.

قلت: وإنما أبهم الإثم في رواية الصَّحيح إشارة إلى أنَّ هذا الإثم عظيم كبير، لا يتقدر بقدر، ولا يوصف بوصف، ولا يدخل تحت عبارة؛ فافهم.

وما ذكره العجلوني هنا غير سديد؛ لأنَّ فيه خلطًا وخبطًا؛ فاجتنبه.

وقوله: (لكان أن يقف أربعين) : جواب (لو)، وكلمة (أن) : مصدرية؛ والتقدير: لو يعلم المار ما الذي عليه من الإثم من مروره بين يدي المصلي؛ لكان وقوفه أربعين خيرًا له من أن يمر؛ أي: مروره بين يديه، قاله إمام الشَّارحين.

وزعم الكرماني أنَّ جواب (لو) ليس المذكور؛ إذ التقدير: لو يعلم ماذا عليه؛ لوقف أربعين، ولو وقف أربعين؛ لكان خيرًا له.

وردَّه الشَّارح بأنَّه لا ضرورة إلى هذا التقدير، وهو تصرف فيه تعسف، وحق التركيب ما ذكرناه؛ فافهم، انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ ما ذكره الكرماني أدق وأتم في الارتباط، والمعنى يدل عليه، نعم؛ ليس هو بمتعين كما في «الفتح»، انتهى.

قلت: اعتراض الناقل والمنقول عنه؛ كلاهما غير صواب؛ لأنَّ ظاهر اللَّفظ يدل لما قاله إمامنا الشَّارح، بل الظَّاهر أنَّه متعين ههنا، وعليه المعنى ظاهر، وأمَّا ما زعمه الكرماني؛ فإنَّه قاصر فاسد التركيب، غير مرتبط كلامًا ومعنًى، فما زعمه العجلوني تبعًا لابن حجر تعصب بارد من ذهن شارد؛ فافهم.

(خيرًا له) قال الشَّارح: (فيه روايتان النصب والرفع؛ أمَّا النصب؛ فظاهر؛ لأنَّه خبر لـ «كان»، واسم «كان» هو قوله: «أن يقف»؛ لأنا قلنا: إن كلمة «أن» مصدرية، وأن التقدير: لكان وقوفه خيرًا له أربعين، وأمَّا الرفع؛ فقد قال ابن العربي: هو اسم «كان»، ولم يذكر خبره ما هو، وخبره هو قوله: «أن يقف»؛ والتقدير: لو يعلم المار ماذا عليه؛ لكان خير وقوفه أربعين) انتهى.

وزعم ابن حجر: (يحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها)، وردَّه الشَّارح: بأنَّه تعسف، واعترضه العجلوني بأن لا تعسف، بل كل في مركزه، ولا إخبار عن النكرة بمعرفة، وتقدير ضمير الشأن متداول، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّه فاسد الاعتبار والتركيب مع خفاء المعنى المراد منه، على أنَّه ليس كل في مركزه، كما لا يخفى، وليس فيه الإخبار عن النكرة بمعرفة مع أنَّه جائز عند جماعة، وضمير الشأن وإن كان تقديره متداولًا، لكنه في غير هذا، أمَّا ههنا؛ فغير متداول، بل غير ظاهر المعنى مع ما فيه من الخفاء وعدم ظهورالمراد؛ فافهم.

(من أن يمر)؛ أي: المار، متعلق بقوله: (خيرًا)، وكلمة (من) : هي الجارة للمفضل عليه (بين يديه)؛ أي: يدي المصلي؛ أي: أمامه بالقرب منه، وإنما عبر باليدين؛ إمَّا لكون أكثر الشغل يقع بهما، وإمَّا لأنَّ المار يمر قرب يدي المصلي، فللقرب المذكور عبَّر بهما؛ فليحفظ، وإنما خص الوقوف -وهو تعذيب- جزاءً لفعله وهو أهون؛ لأنَّ عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة.

وقد قال إمام الشَّارحين: وروى ابن ماجه عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «لأنْ يقوم أربعين خير له من أن يمر بين يديه»، قال سفيان: فلا أدري أربعين سنة، أو شهرًا، أو صباحًا، أو ساعةً، وفي «مسند البزار» : «لأنْ يقوم أربعين خريفًا خير له»، وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضًا في الصلاة؛ كان لأن يقيم مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها»، وفي «الأوسط» للطبراني عن عبد الله بن عَمرو مرفوعًا: «إن الذي يمر بين يدي المصلي عمدًا؛ يتمنى يوم القيامة أنَّه شجرة يابسة»، وفي «المصنف» عن عبد الحميد عاملِ عمر بن عبد العزيز: قال عليه السَّلام: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه؛ لأحب أن تنكسر فخذه ولا يمر بين يديه»، وقال ابن مسعود: (المار بين يدي المصلي أنقص من الممر عليه، وكان إذا مر أحد بين يديه؛ التزمه حتى يرده)، وقال ابن بطال: قال عمر رضي الله عنه: (لكان يقوم حولًا خير له من مروره)، وقال كعب الأحبار: لكان أن يُخسَف به خير له من أن يمر بين يديه، انتهى.

قلت: فهذا كله يدل على الوعيد


(١) في الأصل: (وليس)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>