للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الشديد، ولهذا قال الشَّارح: وفي الحديث: أن المرور بين يدي المصلي مذموم، وفاعله مرتكب الإثم.

وقال النَّووي: فيه: دليل على تحريم المرور، فإنَّ في الحديث النَّهي الأكيد، والوعيد الشديد، فيدل على ذلك.

قلت: فعلى ما ذكره ينبغي أن يكون المرور بين يدي المصلي من الكبائر، اختلف في تحديد ذلك؛ فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل: بينه وبينه ثلاثة أذرع، وقيل: بينهما قدر رمية حجر، وقد مر الكلام فيه، انتهى، قلت: والقول الأول هو الصَّواب، وعليه الجمهور من أولي الألباب.

(قال أبو النَّضْر)؛ بفتح النُّون، وسكون المعجمة: هو سالم بن أبي أمية المذكور في السند السَّابق: (لا أدري أقال)؛ بهمزة الاستفهام، ولأبي ذر: بإسقاطها، لكنها مقدرة، وفاعله بُسر بن سعيد، وهو من كلام مالك.

وزعم الكرماني أن فاعله بسر أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إما من كلام مالك؛ فهو مسند، وإما تعليق من البخاري.

وردَّه إمامنا الشَّارح، فقال: (الظَّاهر من اللَّفظ: أنَّه بُسر بن سعيد، وهو من كلام مالك وليس من تعليق البخاري؛ لأنَّه ثابت في «الموطأ» من جميع الطرق، وكذلك هو ثابت في رواية النَّووي وابن عيينة) انتهى، وتبعه ابن حجر، والقسطلاني، والعجلوني؛ فليحفظ.

(أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟) : وللبزار: (خريفًا)، ولابن ماجه: (أربعين سنة أو شهرًا أو صباحًا أو ساعة)، ولابن حبان: (مئة عام)، كما قدمناه، وإنما ذكر هذا؛ لأنَّه ذكر العدد؛ أعني: (أربعين)، ولا بد له من مميز؛ لأنَّه لا يخلو عن هذه الأشياء، وقد أبهم ذلك ههنا، فإن قلت: ما الحكمة فيه؟ قلت: قال الكرماني: وأبهم الأمر؛ ليدل على الفخامة، وأنَّه مما لا يقادر قدره، ولا يدخل تحت العبارة، انتهى.

وردَّه الشَّارح، فقال: (الإبهام ههنا من الراوي، وفي نفس الأمر العدد معين، ألا ترى كيف تعين فيما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: «لكان أن يقف مئة عام...»؛ الحديث؟ وكذا عيَّن في «مسند البزار» من طريق سفيان بن عيينة: «لكان أن يقف أربعين خريفًا») انتهى.

وقال الكرماني: (فإن قلت: هل للتخصيص بالأربعين حكمة معلومة؟ قلت: هي أسرار، وأمثالها لا يعلمها إلا الشَّارع، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لأنَّ الغالب في أطوار الإنسان أن كمال كل طور بأربعين؛ كأطوار النطفة، فإن كل طور منها بأربعين، وكمال عدل الإنسان في أربعين سنة، ثم الأربعة أصل جميع الأعداد؛ لأنَّ أجزاءه هي عشرة، ومن العشرات المئات، ومنها الألوف، فلما أريد التكثير؛ ضوعف كل واحد إلى عشرة أمثاله) انتهى.

واعترضه الشَّارح، فقال: (غفل الكرماني عن رواية المئة حيث قصر في بيان الحكمة على الأربعين).

وزعم ابن حجر في التنكيت على الكرماني: بأن هذه الرواية تشعر بأن إطلاق (الأربعين) للمبالغة في تعظيم الأمور لا لخصوص عدد معين.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لا ينافي رواية المئة بيان وجه الحكمة في الأربعين، بل ينبغي أن يطلب وجه الحكمة في كل منهما؛ لأنَّ لقائل أن يقول: لم أطلق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر؟ ولِمَ لَمْ يذكر الخمسين أو الستين أو نحو ذلك؟ والجواب الشافي في ذلك: أن تعيين الأربعين الوجه الذي ذكره الكرماني، وأمَّا وجه ذكر المئة؛ فما ذكره الحافظ الطَّحاوي: أنَّه قيد بالمئة بعد التقييد بالأربعين؛ لزيادة في تعظيم الأمر على المار؛ لأنَّ المقام مقام زجر، وتخويف، وتشديد.

فإن قلت: من أين علم أن التقييد بالمئة بعد التقييد بالأربعين؟

قلت: وقوعهما معًا مستبعد؛ لأنَّ المئة أكثر عددًا من الأربعين، وكذا وقوع الأربعين بعد المئة؛ لعدم الفائدة، وكلام الشَّارع كله حكمة وفائدة، والمناسبة أيضًا تقتضي تأخير المئة عن الأربعين.

فإن قلت: قد علم وجه الحكمة في الأربعين، فما وجه الحكمة في تعيين المئة؟

قلت: المئة وسط بالنسبة إلى العشرات والألوف، وخير الأمور أوساطها، وهذا مما تفردت به) انتهى كلام إمامنا الشَّارح الحافظ بدر الدين العيني قدس سره العزيز، ونفعنا به في الدارين.

ثم قال: (وفي الحديث: عموم النَّهي لكل مُصلٍّ، وتخصيص بعضهم بالإمام والمنفرد؛ لا دليل عليه، وفيه: طلب العلم، والإرسال لأجله، وفيه: جواز الاستنابة، وفيه: أخذ العلماء بعضهم من بعض، وفيه: الاقتصار على النزول مع القدرة على العلو؛ لإرسال زيد بن خالد بُسَر بن سعيد إلى أبي جُهيم، ولو طلب العلو؛ لسعى هو بنفسه إلى أبي جُهيم، وفيه: قبول خبر الواحد) انتهى.

ومراده بقوله: (وتخصيص بعضهم...) إلى آخره: بعض المالكية؛ لأنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه فانتفى (١) المأموم، ورُدَّ بأنَّه لا يطابق المدعى؛ لأنَّ السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار، فاستوى في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد.

وقال ابن بطال: فُهِم من قوله: (لو يعلم) : أن الإثم يختص بمن يعلم بالمنهي وارتكبه، واعترضه ابن حجر: بأنَّه بعيد.

وردَّه الشَّارح: بأنَّه ليس فيه بُعد؛ لأنَّ (لو) للشرط، فلا يترتب الحكم المذكور إلا عند وجود العلم، انتهى.

قلت: ويدل عليه قول النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه»؛ ومعناه: رفع الإثم عند الجمهور، فالذي لم يعلم مخطئ بالفعل المذكور، وهو غير مؤاخذ به؛ لعدم علمه، لا يقال: يعارضه قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣]؛ لأنَّا نقول: إن معناه: فاسألوهم حين وجودهم، أمَّا عند عدم وجودهم؛ فالإثم مرفوع؛ للحرج، كما إذا كان في مفازة، أو في الصحراء، أو مسافرًا، أو في قرية، أو نحوها، وفي هذه الأماكن لا يوجد من أهل الذكر أحد، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فرفع عنه الإثم للحرج، كما لا يخفى.

وزعم ابن حجر أنَّ ظاهر الحديث أن الوعيد يختص بمن مر، لا بمن وقف عامدًا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة التشويش على المصلي؛ فهو في معنى المار، انتهى.

قلت: ظاهر الحديث يخالفه، فإن من وقف بين يديه، أو جاء وقعد، أو جاء ورقد؛ فهو مار حقيقة وزيادة، فإن المار عابر سبيل، أمَّا هذا؛ فقد زاد؛ لأنَّه مر بين يديه، وزاد عليه الوقوف أو القعود أو الرقود، فهو مَارٌّ حقيقة، وليس العلة كما زعمه، وإنَّما العلة ما قاله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «فإنَّما هو شيطان»، كما سبق.

وذكر ابن دقيق العيد: أنَّ بعض المالكية قَسَّم أحوال المار والمصلي أربعة أقسام؛ الأول: أن يصلِّي إلى سترة في غير مشرع وللمار مندوحة؛ فيأثم المار دون المصلي، الثاني: أن يصلِّي في مشرع مسلوك بغير سترة أو متباعدًا عن السترة ولا يجد المار مندوحة؛ فيأثم المصلي دون المار، الثالث: أن يصلِّي بغير سترة ويجد المار مندوحة؛ فيأثمان جميعًا، الرابع: أن يصلِّي إلى سترة، لكن لا يجد المار مندوحة؛ فلا يأثمان جميعًا، انتهى.

قلت: ونقل ذلك المحقق ابن أمير حاج الحلبي في «شرحه على المنية»، ثم قال: وقواعدنا لا تأباه، قلت: لكن في الصورة الرابعة ينبغي أن يأثم المار فقط؛ لأنَّه يمكنه


(١) في الأصل: (فانتقى)، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>