للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

يدر ما يقول؛ لأنَّه من شدة التعصب والعناد لم يعلم أنه هل أخطأ أم أجاد؟ بل هو إلى الأول أصوب؛ فافهم ذلك)؛ فافهم.

(إذْ)؛ بسكون الذال، وفي بعض النسخ وجميع نسخ «مسلم» : (إذا) (طُعِنَتْ)؛ بألف بعد الذال، وهي هنا لمجرد الظرفية، أو هي بمعنى (إذ)، فقد يتعاقبان، فلا يرد أن (إذا) للاستقبال، ولا يصح المعنى عليه، أو هو لاستحضار صورة الطعن؛ إذ الاستحضار كما يكون بصريح لفظ المضارع؛ كقوله تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: ٩] يكون أيضًا بما في معناه، كما فيما نحن فيه، قاله الكرماني، ثم قال: (طُعِنَتْ)؛ بالتأنيث، والبناء للمفعول، والمطعون المسلم؛ لأنَّ أصله طعن بها، فحذف الجار، وأوصل الضمير المجرور إلى الفعل، وصار المنفصل متصلًا.

وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّ هذا تعسف، بل التأنيث فيها باعتبار الكلمة كما في هيئتها؛ لأنَّها هي المطعونة في الحقيقة، والذي يكلم إنَّما يسمى مطعونًا باعتبار الكلمة والطعنة) انتهى.

قلت: فعلى هذا: لا مجاز في إيقاع الطعن على الكلمة، وعلى ما ذكره الكرماني هو من المجاز، ولا يخفى أنَّ الأول هو الأولى؛ لأنَّ الحقيقة لا ريب أنها أولى، ومقدمة على المجاز.

واعترض البرماوي على الكرماني فقال: (إن التاء علامة لا ضمير، فإن أراد الضمير المستتر؛ فتسميته متصلًا طريقة، والأجود أن الاتصال والانفصال وصفان للبارز) انتهى؛ يعني: أن في طعن ضمير المسلم المتقدم وهو نائب عن الفاعل، فإذا حذفنا الجار ووصلنا الضمير؛ صار التقدير: طعنها، فكيف يكون تأنيث الفعل لما ذكر؟! وكأنه اعتبر أن النائب عن الفاعل الجار والمجرور، وهو بعيد؛ فتأمل، والله أعلم.

(تفجَّر دمًا) منصوب على التمييز، و (تفجَّر) : بتشديد الجيم؛ لأنَّ أصله: يتفجر، فحذفت إحدى التاءين؛ كما في قوله تعالى: {نَارَا تَلَظَّى} [الليل: ١٤]، أصله: تتلظى، قاله في «عمدة القاري»، وقال الكرماني: (تفجُر)؛ بضمِّ الجيم، من الثلاثي، وبفتح الجيم المشددة، وحذفت التاء الأولى منه من (التفعيل)، قال صاحب «عمدة القاري» : (أشار بهذا إلى جواز الوجهين فيه، ولكنه مبني على مجيء الرواية بهما) انتهى (اللون) : ولأبي ذر: (واللون) بالواو (لون الدم) : الجملة إما حالية أو استئنافية، و (اللون) في المبصرات، وهو أظهر الممسوسات حقيقة ووجودًا، فلهذا استغنى عن تعريفه وإثباته بالدليل، ومن القدماء من زعم أنه لا حقيقة للألوان أصلًا، ومنهم من ظن أن اللون الحقيقي ليس إلا السواد والبياض، وما عداهما إنَّما يحصل من تركيبهما، ومنهم من زعم أن الألوان الحقيقية (١) خمسة: السواد، والبياض، والحمرة، والخضرة، والصفرة، وجعل البواقي مركبة منها، والدم أصله: دَمَو؛ بالتحريك، وإنما قالوا: دما يدمي؛ لأجل الكسرة التي قبل الياء، كما قالوا: رضا يرضي، من الرضوان، وقال سيبويه: أصله: دَمي؛ بالتحريك وإن جاء جمعه مخالفًا لنظائره، والذاهبة منه الياء، والدليل عليها قولهم في تثنيته: دميان، وبعض العرب تقول في تثنيته: دموان، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» رحمه الله، ورضي عنه، (والعَرْف عَرْف)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الرَّاء، آخره فاء: وهو الرائحة الطيبة، وأصحاب الأعراف: الذين يجدون عَرْف الجنة؛ أي: ريحها، وكذا يقال: هو الرائحة المنتنة أيضًا، لكن الأكثر في الطيبة؛ فافهم (المِسك)؛ بكسر الميم، وهو معرَّب: مُشك؛ بالشين المعجمة، وضم الميم، ويروى: (عرف مسك)؛ منكرًا، وكذا الدم يروى، وهذا لا يستلزم أن يكون مسكًا حقيقة، بل يجعل الله شيئًا يشبه هذا، ولا كونه دمًا يستلزم أن يكون دمًا نجسًا حقيقة، ويجوز أن يحوله الله تعالى إلى مسك حقيقة؛ لقدرته على كل شيء، كما أنه يحول أعمال بني آدم من الحسنات والسيئات إلى جسده؛ ليوزن في الميزان الذي ينصبه يوم القيامة.

ففي الحديث: أن الحكم في دم الشهيد أنه يأتي يوم القيامة على هيئته حتى يشهد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله، وكون رائحته على رائحة المسك إظهار الفضيلة لأهل المحشر، ولهذا لا يغسل دمه خلافًا لابن المسيب والحسن.

فإن قلت: ما وجه مناسبة الحديث للترجمة؟

قلت: أجاب صاحب «عمدة القاري» : (بأنه لما كان مبنى الأمر في الماء التغيير بوقوع النَّجاسة، وأنه يخرج عن كونه صالحًا للاستعمال لتغير صفته التي خلق عليها؛ أورد له نظيرًا بتغير دم الشهيد، فإن مطلق الدم نجس، ولكنه تغير بواسطة الشهادة في سبيل الله تعالى، ولهذا لا يُغْسَلُ عنه دمُه؛ ليظهر شرفه يوم القيامة لأهل الموقف، فانتقال صفته المذمومة إلى الصفة المحمودة حيث صار انتشاره كرائحة المسك؛ فافهم) انتهى.

وأجاب الكرماني: (بأن المسك أصله دم انعقد، وفضلة نجسة من الغزال، فيقتضي أن يكون نجسًا كسائر الدماء، وكسائر الفضلات، فأراد البخاري أن يبين طهارته بمدح الرسول عليه السَّلام كما بين طهارة عظم الفيل بالأثر، فظهرت المناسبة غاية الظهور وإن استشكله القوم غاية الاستشكال) انتهى.

وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (لم تظهر المناسبة بهذا الوجه أصلًا، وظهورها غاية الظهور بعيد جدًّا، واستشكال القوم باق، ولهذا قال الإسماعيلي: إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب لا وجه له أصلًا؛ لأنَّه لا يدخل في طهارة ولا نجاسة، وإنما ورد في «فضل المطعون في سبيل الله») انتهى.

وأجاب ابن حجر: (بأن مقصود المصنف إيراد هذا الحديث تأكيدًا لمذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة ما لم يتغير؛ لأنَّ تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة إلى طيب المسك أخرجه من النَّجاسة إلى الطهارة؛ فكذلك (٢) تغير صفة الماء بالنَّجاسة؛ لخروجه من صفة الطهارة إلى صفة النَّجاسة، فإذا لم يوجد التغير؛ لم توجد النَّجاسة) انتهى.

وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: هذا القائل أخذها من كلام الكرماني، فإنه نقله في «شرحه» عن بعضهم، ثم قال: هذا القائل وتعقب بأنَّ الغرض إثبات انحصار التنجيس بالتغيير، وما ذكر يدل على أنَّ التنجيس يحصل بالتغير، وهو باقٍ إلا أنه لا يحصل إلا به، وهو موضع النزاع.

قلت: وهذا أيضًا كلام الكرماني، ولكنه سبكه في صورة غير ظاهرة، وقول الكرماني هكذا، فنقول للبخاري: لا يلزم من وجود الشيء عند الشيء ألَّا يوجد عند عدمه؛ لجواز مقتضًى آخر، ولا يلزم من كونه خرج بالتغير إلى النَّجاسة ألَّا يخرج إلا به؛ لاحتمال وصف آخر يخرج به عن الطهارة بمجرد الملاقاة، انتهى.

وحاصل هذا: أنه وارد على قولهم: إن مقصود البخاري من إيراده هذا الحديث تأكيد مذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة، انتهى كلام «عمدة القاري».

قلت: وهذا كله


(١) في الأصل: (الحقيقة)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (فلذلك)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>