للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

سنة ثلاث وستين ومئة (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (إسحاق)؛ هو ابن عبد الله بن أبي طلحة بن سهل الأنصاري، (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، وعند مسلم: (حدثني أنس) : (أن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم رأى) بمعنى: أبصر (أعرابيًّا)؛ بالنصب مفعوله (يبول) : جملة في محل النصب على أنَّها صفة لـ (أعرابيًّا)؛ والتقدير: أبصر أعرابيًّا بائلًا، وجوَّز الكرماني أن تكون حالًا، ومنعه في «عمدة القاري»، وتبعه العجلوني لقول «الألفية» :

وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ... لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ [أَوْ يَبِنْ]

وعلله في «عمدة القاري» بأنَّه لا يقع الحال على النَّكرة إلا إذا كان مقدمًا على الحال؛ أي: غالبًا، انتهى وهذا مراده؛ فافهم، وبه سقط زعم العجلوني؛ فافهم.

قال في «عمدة القاري» : (وعن عبد الله بن نافع المدني: أن هذا الأعرابي كان الأقرع بن حابس، حكاه أبو بكر التاريخي، وأخرج أبو مسلم المدني هذا الحديث في «الصحابة» من طريق محمَّد بن عطاء، عن سليمان بن يسار قال: «اطلع ذو الخويصرة اليماني، وكان رجلًا جافيًا...»؛ فذكر الحديث تامًّا بمعناه وزيادة، ولكنه مرسل، وفي إسناده أيضًا مبهم، ولكن فهم منه أن الأعرابي المذكور هو ذو الخويصرة، ولا يبعد ذلك لجلافته وقلة أدبه) انتهى، وقيل: إنه عيينة بن حصن.

وعلى كلٍّ؛ فهذا الأعرابي كان من جفاة الأعراب؛ لما في «أبي داود» من حديث الزُّهْرِي، عن سَعِيْد، عن أبي هريرة: أن أعرابيًّا دخل المسجد ورسول الله عليه السلام جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي عليه السلام له: «لقد تحجرت واسعًا»، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي عليه السلام وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تُبْعَثُوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء»، وعند ابن ماجه: «لقد حصرت واسعًا أو اختصرت واسعًا، ويلك! أو ويحك! لو عممت؛ لاستجيب لك»، وقوله: (حصرت) من الحصر؛ بالصاد المهملة، وهو الحبس والمنع، لكن لما رفق به النبي عليه السلام وعلَّمه من غير عنف وفقه في الإسلام؛ قام إلى النبي عليه السلام، وقال له: بأبي أنت وأمي، فلم تؤنِّب ولم تسب، انتهى.

(في المسجد) الألف واللام فيه للعهد الذهني؛ أي: مسجد النبي الأعظم عليه السلام، وهو متعلق بـ (يبول) لا صفة (أعرابيًّا)، أو حال من فاعل (يبول) إلا أن قُدِّر: يبول فيه؛ فتأمل.

(فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، وهو عطف على مقدر؛ أي: فتناوله الناس بألسنتهم، فقال: (دعُوه)؛ بضمِّ العين المهملة؛ أي: اتركوه، وهو أمر بصيغة الجمع من (يدع) (١) تقول: دع دعا دعوا؛ بضمِّ العين، والعرب أماتت ماضيه، إلا ما جاء شاذًّا في قوله تعالى: (مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ) [الضحى: ٣] بالتخفيف، وفي رواية مسلم: (لا تزرموه ودعوه)، وهو بتقديم الزاي على الراء المهملة؛ بمعنى: لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم الدمع والدم؛ انقطعا، وأزرمته أنا، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الأعرابي، ففيه المبادرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه مبادرة الصحابة إلى الإنكار بحضرة الرسول عليه السلام من غير مراجعة.

فإن قلت: أليس هذا من باب التقدم بين يدي الله ورسوله؟

قلت: لا؛ لأنَّ ذلك مقرر عندهم في الشرع من مقتضى الإنكار، فأَمْرُ الشارع متقدم على ما وقع منهم في ذلك.

وإن لم يكن في هذه الواقعة الخاصة إذن، فدل على أنه لا يشترط الإذن الخاص، ويكفي الإذن العام، وفيه دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، وفيه مراعاة التيسير على الجاهل، والتألف للقلوب؛ لأنَّه لو لم يتركوه؛ لتنجس بدنه، أو ثوبه، أو موضع آخر من المسجد، أو يقطعه فيتضرر بذلك، أفاده في «عمدة القاري».

(حتى إذا فرغ)؛ أي: من بوله، كما صرح به في رواية، وهذا وما بعده من كلام أنس رضي الله عنه؛ (دعا)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: جواب (إذا) الشرطية، و (حتى) ابتدائية، ويحتمل أن تكون (حتى) للغاية لمقدر؛ أي: فتركوه، و (إذا) ظرفية فقط، و (دعا) جواب (لمَّا) مقدرة؛ أي: فلما فرغ؛ دعا (بماء)؛ أي: طلب النبي عليه السلام ماء، فهو متعلق بـ (دعا)؛ لتضمنه معنى ما يتعدى بالباء، أو زائدة في المفعول؛ لأنَّه بمعنى: طلب، وفي رواية ابن صاعد عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سَعِيْد، عن أنس: فقال عليه السلام: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوبًا من ماء»، وفي رواية أبي داود عن عبد الله بن معقل (٢) بن مقرن: «خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء»، وعند المؤلف الآتي: (فلما قضى بوله؛ أمر عليه السلام بذنوب من ماء فأهريق عليه)، وفي رواية مسلم: (فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو فشنه عليه)، وفي رواية النسائي: (فلما فرغ؛ دعا بدلو فصب عليه)، وفي رواية ابن ماجه: (ثم أمر بسَجْلٍ من ماء فأفرغ على بوله)، (فصبه)؛ أي: أمر بسكب الماء على البول، فالصب: السكب، يقال: صببت الماء فانصب؛ أي: سكبته فانسكب، والماء منصب من الجبل؛ أي: ينحدر، ويقال: ماء صب، وهو كقولك: ماء سكب، ويأتي (فصب) بدون ضمير المفعول، وفي رواية مسلم: (فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو فسنه عليه)؛ بالسين المهملة، وفي رواية الطحاوي بالمعجمة، والفرق بينهما أن السن بالمهملة: الصب المتصل، وبالمعجمة: الصب المنقطع، قاله ابن الأثير، والذَّنوب؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيم، وقيل: لا تسمى ذَنوبًا إلا إذا كان فيها ماء، كذا في «عمدة القاري»، واستنبط الشافعي من الحديث: أن الأرض إذا أصابتها نجاسة وصب عليها الماء؛ تطهر، ولا يشترط حفرها، وقال أئمتنا الأعلام أصحاب الإمام الأعظم التابعي الجليل الهمام: إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة؛ فإن كانت الأرض رخوة؛ صب عليها الماء حتى يتسفل فيها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفل الماء؛ يحكم بطهارتها ولا يعتبر العدد فيه وإنما هو على اجتهاده وغالب ظنه أنها طهرت، ويقوم في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر، وعلى قياس ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم أنه يصب عليها الماء ثلاث مرات، ويستفل (٣) في كل مرة، وروي عن الإمام أبي يوسف أنه يصب عليها بحيث لو كانت هذه النجاسة في الثوب؛ طهر، واستحسن هذا في «الذخيرة»، وإن كانت الأرض صلبة؛ فإن كانت صعودًا يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل (٤) إلى الحفيرة، ثم يكبس الحفيرة، وإن كانت صلبة مستوية؛ صُبَّ عليها الماء ثلاث مرات وجُففت كل مرة بخرقة طاهرة، وكذا لو صب عليها الماء بكثرة حتى لا يظهر أثر النجاسة، ثم يتركها حتى تنشف؛ طهرت، وكذا لو قلبها بجعل الأعلى أسفل وعكسه، أو كبسها بتراب ألقاه عليها فلم يوجد ريح النجاسة؛ طهرت، وإن كانت الأرض مجصصة، فقال في «الواقعات» : يصب عليها الماء، ثم يدلكها وينشفها بخرقة ثلاث مرات، فتطهر، وجعل ذلك بمنزلة غسل الثوب في الإجانة، والتنشف بمنزلة العصر، كذا في «البحر» عن «السراج»، ومثله في «الخلاصة»، و «المحيط»، وفي «الذخيرة» عن الحسن بن أبي مطيع: أنه إذا صب عليها الماء فجرى قدر ذراع؛ طهرت الأرض والماء طاهر بمنزلة الماء الجاري، وفي «المنتقى» : أصابها المطر غالبًا فجرى عليها؛ فذلك مطهر لها، ولو قليلًا لم يجر عليها؛ لم تطهر، انتهى.

ودليل ما قلناه أحاديث كثيرة منها ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي في مسجد النبي عليه السلام فبال فيه، فقال النبي عليه السلام: «خذوا ما بال عليه من التراب وألقوه وأهريقوا مكانه ماء»، ثم قال أبو داود: (وهو مرسل، وابن معقل لم يُدْرِكِ النبي عليه السلام)، وقال الخطابي: (هذا


(١) في الأصل: (يدل)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (مغفل)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
(٣) في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) في الأصل: (ويستقل)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>