للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بريقها، فمصعته بظفرها)، وما عند أحمد عن أبي هريرة: أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله؛ ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه، قال: «فإذا طهرت؛ فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه»، قالت: يا رسول الله؛ أرى لم يخرج أثره، قال: «يكفيك الماء ولا يضرك أثره»، وقال الكرماني، وتبعه ابن حجر: أن معنى (تحيض في الثوب) أن دم الحيض يصل إليه، ويدل له ما رواه المؤلف من طريق مالك عن هشام: (إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة)، وما رواه مسلم: (أرأيت المرأة يصيب ثوبها من دم الحيضة).

قلت: وما قاله في «عمدة القاري» أظهر وأحسن للمعنى؛ فليحفظ.

وجملة (كيف تصنع) إما في محل نصب على أنه مفعول ثان لـ (أرأيت) المذكورة إن قلنا: بأنها تعلق، أو بدل من الأول، وإما لا محل لها، وإن قلنا: بأنها تعلق؛ لأنَّها مستأنفة؛ لبيان الحال المستخبر عنها، كما قاله الرضي، وكذا إن قلنا بعدم تعليق (أرأيت) المذكورة بناء على أحد قولي الإمام الزمخشري: إن شرط التعليق أن يذكر بعد العامل ما يسد مسد منصوبيه معًا، وكذا لا محل لها إن قلنا لا تتعدى (أرأيت) إلى اثنين، والكلام على (أرأيت) المذكورة، ومتعلقاتها مستوفًى في «التسهيل» وشروحه، والله أعلم.

(قال) وللأصيلي: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام: (تحُتُّه)؛ أي: الثوب، بضمِّ الحاء المهملة، وبالفوقية المشددة؛ من حتَّ الشيء عن الثوب وغيره تحتُّه حتًّا، وفي «المنتهى» : (الحت: حتك الورق من الشجر، والمني، والدم، ونحوهما من الثوب وغيره، وهو دون النحت)، وعند ابن طريف: (حت الشيء نفضه (١)، وقيل: معناه: تحكه)، كما وقع في رواية ابن خزيمة، والمراد من ذلك: إزالة عينه المتجسدة، (ثم تَقرُضه)؛ أي: الثوب، وهو بضمِّ الراء، والضاد المعجمة مع فتح أوله، وسكون ثانيه، وفي رواية: (قرِّضيه)؛ بالتشديد، قال أبو عبيد: (أي: قطِّعيه)، وقال عياض: (رُوِّيناه: بفتح المثناة فوق، وإسكان القاف، وضم الراء، وبضمِّ المثناة، وفتح القاف، وكسر الراء المشددة)، قال: (وهو الدلك بأطراف الأصابع مع صبِّ الماء عليه حتى يذهب أثره)، وفي «المغرب» : (الحت: القرض باليد، والقرض بأطراف الأصابع)، وفي «المحكم» : (القرض: التخميش والغمز بالإصبع، والمقرض: المقطوع المأخوذ من شيئين)، وفي «الجامع» : (كل مقطوع مقرض)، وفي «الصحاح» : (اقرضيه بماء)؛ أي: اغسليه بأطراف أصابعك، والمراد من ذلك: أنها تفرك مواضع الدم بأطراف أصابعها (بالماء)؛ أي: مع صبِّ الماء عليه؛ ليتخلل بذلك ويخرج ما تشرَّبه الثوب منه، ولا يضر بقاء أثر شق زواله حتى يتكلف إلى إزالته بنحو صابون، أو أشنان، أو ماء حار، فإن ذلك غير لازم للحرج، وهو مدفوع بالنص.

فإن قلت: وقع في حديث أم قَيْس بنت محصن عند ابن خزيمة: (واغسليه بالماء والسدر وحكيه ولو بضلع)، وعند أبي أحمد العسكري: (حكيه بضلع، وأتبعيه بالماء والسدر)، وعند أبي داود عن امرأة من غفار: أن رسول الله عليه السلام لما رأى ثيابها من الدم؛ قال: «أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء واطرحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب من الدم، ثم عودي لركبك»

قلت: ذكر السدر والحك بالضلع بالملح إن صح؛ فهو أمر محمول على الندب لا الوجوب، وقد قال ابن القطان: الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع والسدر، وعاب على أبي أحمد [قوله]، ويدل لذلك ما رواه أحمد في «مسنده» من حديث أبي هريرة قال: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره» كما تقدم قريبًا، وعند الدارمي عن أم سَلَمَة: (إن إحداهن تسبقها القطرة (٢) خفيةً من الدم، فقال عليه السلام: «إذا أصاب إحداكن ذلك؛ فلتقصعه بريقها» وعند ابن خزيمة: (وقيل لها: كيف كنتن تصنعن بثيابكنَّ إذا طمثن على عهد رسول الله عليه السلام؟ قالت: إن كنا لنطمث في ثيابنا أو في دروعنا، فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم)، ويدل لذلك أحاديث يطول سردها، وعلى كل؛ فهو محمول على الندب والإرشاد لا الوجوب؛ فليحفظ.

(وتنضَحُه) وفي رواية: (ثم تنضحه) وهو بفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء المهملة من باب (فتَح يفتَح)؛ بفتح عين الفعل فيهما، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه في «فتح الباري»، وقال الكرماني، وتبعه مغلطاي: (إنه بكسر الضاد المعجمة)، قال في «عمدة القاري» : (وهو غلط).

قلت: ووجه الغلط، إما أنه من حيث الرواية؛ فإن الرواية بالفتح، وإما من حيث اللغة، وفي «المصابيح» : (أن أبا حيَّان قرأ في بعض المجالس: وانضَح فرجك؛ بفتح الضاد المعجمة، فرد عليه الدمنهوري وقال: نص النوويُّ على أنه بالكسر، فقال أبوحيان: حق النووي أن يستفيد هذا مني، والذي قلته هو القياس) انتهى.

فهذا دليل على أنه بالفتح لا غير، لكن نقل صاحب «الجامع» أن الفتح أفصح والكسر لغة، ولا ريب أن غير الفصيح شاذ وغلط، فتعيَّن الفتح فقط؛ فافهم.

والضمير في (تنضحه) يرجع إلى الماء لا غير، والمراد بالنضح: الغسل؛ أي: تغسله، قاله الخطابي، وقدمنا ذلك مفصلًا، ويدل له قوله في الحديث الآتي بعد هذا: «فاغسلي عنك الدم» فهو يعيِّن أن المراد بالنضح في كلامهم الغسل لا غير؛ فليحفظ.

واستدل الإمام محمَّد والشافعي بهذا الحديث على أن النجاسات إنَّما تُزَال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة الدم إجماعًا، وهو مردود؛ فإن الماء في الحديث خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط؛ والمعنى في ذلك: أن الماء أكثر وجودًا من غيره، فصرح به باعتبار الغالب أو الكثرة، ورد أيضًا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ورد أيضًا بأن هذا مفهوم اللقب وهو غير حجة عند الشافعي، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض؛ قالت بريقها فمصعته (٣) بظفرها)، وعند أبي داود: (بلته بريقها)، فلولا أن الريق مطهر؛ لزادت النجاسة، واعترض باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم غسلته بعد ذلك، ورُدَّ بأن هذا احتمال بعيد؛ لأنَّه لا دليل يدل على أنها غسلته بعد ذلك، ولئن سلَّمنا أنها غسلته؛ فبالغسل يحصل تحليل أثره من غير احتياج إلى مضغه أو بله بريقها، فمضغه أو بله بريقها دليل على أنها لم تغسله وهو كذلك؛ لأنَّه لم يثبت عنها ذلك ولا أحد نقله عنها، فهذا مجرد دعوى بلا دليل، وهي باطلة لا يعتد بها، على أن المقصود من تطهير النجاسات إزالة عينها وأثرها، والمائعات الطاهرات، وكذا الريق لا ريب أنها تزيل العين والأثر، وبها يحصل المقصود؛ فلا خصوصية بالماء، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور رضي الله تعالى عنهم.

(وتصلي فيه) وفي رواية: (ثم تصلي فيه)، فقد علمت أن الضمير المنصوب في (تحته) وفي (تقرضه) يرجع إلى الثوب، وفي قوله: (وتنضحه) يرجع إلى الماء، وقد ذكرنا عن قريب أن الخطابي قال: (تنضحه)؛ أي: تغسله؛ لأنَّ المراد بالنضح في كلام العرب: الغسل)، وقال القرطبي: (المراد به: الرش؛ لأنَّ غسل الدم استفيد من قوله: «تقرضه بالماء»، وأما النضح؛ فهو لما شكَّت فيه من الثوب)، وقال ابن حجر: (فعلى هذا؛ الضمير في قوله: (تنضحه) يعود إلى الثوب بخلاف (تحته)، فإنه يعود إلى الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ورده في «عمدة القاري» : بأنه لا نسلم ذلك؛ لأنَّ لفظ الدم غير مذكور صريحًا، والأصل في عود الضمير أن يكون إلى شيء مذكور صريح، والمذكور هنا صريحًا الثوب والماء، فالضميران الأوَّلان يرجعان إلى الثوب؛ لأنَّه المذكور قبلهما، والضمير الثالث يرجع إلى الماء؛ لأنَّه المذكور قبله، وهذا هو الأصل؛ فافهم.

وزعم ابن حجر أيضًا


(١) في الأصل: (نقصه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (القرطة)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (فمصغته)، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>