للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كذا في «النهر» عن «الخلاصة»، قال في «النهاية» : (وهذا على تخريج الإمام الكرخي، أما على تخريج الحافظ الطحاوي؛ فتُعلِّم نصف آية) انتهى، وقال في «النهر» : (ولا يكره التهجي بالقرآن، وهو كالتعليم كلمة كلمة، لا يعد قارئًا ولا يسمى به) انتهى.

والمراد: أنه مع القطع بين كل كلمتين كما قيده صاحب «البحر» تبعًا لصاحب «النهاية»، ومثله: ما لو كانت الكلمة آية؛ كـ {ص}، و {ق}، ونحوها؛ فإنه يجوز كما نقله نوح أفندي في «الحواشي»، وفرَّق في «الجوهرة» بين الحائض والجنب: (بأن الحائض مضطرة إلى التعليم؛ لأنَّها لا تقدر على رفع حدثها، بخلاف الجنب؛ فلا يجوز له ذلك؛ لأنَّه قادر على رفع حدثه) انتهى، والمختار أنه لا فرق بين الحائض والجنب في حلِّ التلقين، كما قاله شيخ الإسلام نوح أفندي في «حواشيه»، وتمامه في «منهل الطلاب».

(وقال ابن عباس) : هو عبد الله، حبر هذه الأمة، الرافع عنها الغمة، ترجمان القرآن، وبحر البيان، مما وصله المؤلف في (بدء الوحي) وغيره، ولفظه: (أخبرني) بالإفراد (أبو سفيان) هو ابن حرب: (أن هرقل) أرسل إليه في ركب من قريش إلى أن قام، ثم (دعا بكتاب النبي) الأعظم، وهناك: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) : الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، (فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم) : «من محمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تولَّيت؛ فعليك إثم الأريسيين»، {يَا أَهْلَ الكِتَابِ})؛ بزيادة الواو في أكثر الروايات، وفي رواية: بإسقاطها ({تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}؛ الآية [آل عمران: ٦٤])؛ بالرفع خبر المبتدأ محذوف؛ تقديره: هذه الآية، وبالنصب مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: اقرأ الآية، وهي {أَلَّانَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ... ؛ الحديث، وجه استدلال المؤلف به: أنَّه عليه السلام كتب إلى الروم وهم كفَّار والكافر جنب، كأنَّه يقول: إذا جاز مسِّ الكتاب للجنب مع كونه مشتملًا على آيتين؛ فكذا يجوز له قراءته، وحاصله أنَّه عليه السلام بعث للكفَّار القرآن مع أنَّهم غير طاهرين، فجوَّز مسهم وقراءتهم له، فدل ذلك على جواز القراءة للجنب، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وظاهر حديث هرقل بل صريحه يدلُّ على عدم جواز قراءة القرآن لجنب وحائض؛ لأنَّ المذكور في كتاب النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعض القرآن وهو آية، وذكر غيره من كلامه عليه السلام وهو أكثر من الآية، فصار كالتفسير الذي هو أكثر من القرآن؛ فإنه يجوز مسُّه وقراءته؛ لأنَّه لا يحرم في غير المصحف إلا المكتوب؛ أي: موضع الكتابة، كما صرَّح به في «البحر»، وقال في «الأشباه» : (وقد جوَّز أصحابنا مسَّ كتب التفسير للمحدث، ولم يفصِّلوا بين كون الأكثر تفسيرًا أو قرآنًا، ولو قيل به اعتبارًا للغالب؛ لكان حسنًا) انتهى، وفي «السراج» : (أنَّ كتب التفسير لا يجوز مسُّ موضع القرآن منها، وله أن يمسَّ غيره)، كذا في «الإيضاح».

قلت: وكتاب النبي عليه السلام لمَّا قُرِئ؛ العادة فيه أنَّه لا يمسُّ موضع الكتابة، بل المسُّ إنَّما يكون على الخارج عن الكتابة، كما هو العادة في المكاتبات، إذا علمت هذا؛ ظهر لك عدم جواز القراءة للجنب والحائض القرآن بقصد التلاوة، وما هنا فإنه قصد به قراءة المكتوب لا التلاوة، ولأن هذا شيء مأمور به شرعًا؛ لأجل الإنذار والدخول في الإسلام، ونظيره ما قاله أئمتنا الأعلام من أن الحربي أو الذمي إذا طلب تعلم القرآن والفقه والأحكام؛ يُعلَّم رجاء أن يهتدي، لكن يمنع من مس المصحف إلا إذا اغتسل؛ فلا يمنع بعد ذلك، كذا في «الخانية»، ومثله في «البحر» عن «التجنيس»، ولهذا قال لعليِّ (١) الصدِّيق الأصغر: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»، فالنبي عليه السلام إنَّما قصده الاهتداء والدخول في الإسلام، فأنذره بهذا الكتاب الشريف الذي هو موجود عندهم إلى يومنا هذا يعظم ويتبرك به، وهو يدل على بقاء ملكهم ما دام الكتاب عندهم؛ لأنَّه كلام خالق الكونين، وكلام جد الحسنين عليه السلام.

(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر) : هو ابن عبد الله الأنصاري، مما وصله المؤلف في كتاب (الأحكام) في باب (قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت»)، وفيه: قال جابر: (كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلبينا بالحج، وقدمنا مكة...) إلى أن قال: (حاضت عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما؛ أي: حين قدمت مكة، فأمرها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن تنسك المناسك غير ألَّا تطوف ولا تصلي حتى تطهر، (فنَسَكت) بفتح النون، والسين المهملة (المناسك)؛ أي: أقامت بأمور الحج (كلها غير الطواف بالبيت) العتيق، وقوله: (ولا تصلي) : يحتمل أن يكون من كلام البخاري، قاله في «عمدة القاري».

قلت: ففيه دليل على إباحة الأذكار والدعوات للحائض والجنب، وليس فيه دليل على جواز قراءة القرآن لهما، كما لا يخفى؛ فافهم.

(وقال الحكم)؛ بفتح الحاء المهملة، وفتح الكاف، هو ابن عُتَيْبَة -بضمِّ العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة-، الكوفي، وهذا التعليق وصله البغوي في «الجعديات» من روايته عن علي بن الجعد، عن شعبة عنه قال: (إني لأذبح)؛ أي: الذبيحة (وأنا)؛ أي: والحال أني (جنب) : فالجملة حالية، ولكن لا بدَّ أن أذكر الله تعالى، (وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: ١٢١]) : فأراد بهذا أن الذبح مستلزم شرعًا لذكر الله تعالى بمقتضى هذه الآية، فدلَّ على أن الجنب يجوز له التلاوة، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وكونه يستلزم ذكر الله تعالى لا يلزم منه جواز التلاوة للجنب، بل الذي دلَّ عليه أنَّه يجوز له الأذكار والأدعية فقط، كما لا يخفى، وهذا الأثر دليل ظاهر على أنَّه لا تحل ذبيحة تارك التسمية عمدًا؛ لهذه الآية الكريمة، فإنَّها صريحة في ذلك، ولوصف ما لم يذكر اسم الله عليه بالفسق، حيث قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} : وهو النجس، فهي ميتة، ويحل ذبيحة تارك التسمية ناسيًا؛ لقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان...»؛ الحديث، رواه الشيخان، وهذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله عنه، وهو مذهب علي، وابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي: تحل ذبيحة تارك التسمية عمدًا؛ لقوله عليه السلام: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليها»، وهو رواية عن مالك، ورد بالآية المذكورة، فإنها صريحة بخلافه، وعلى حرمة متروك التسمية عمدًا انعقد الإجماع فيمن كان قبل الشافعي، فهذا القول منه عُدَّ خرقًا للإجماع، وإنما كان الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيًا؛ فمذهب ابن عمر: أنَّه يحرم، ومذهب علي وابن عباس: أنَّه يحلُّ، ولهذا قال الإمام أبو يوسف: إنَّ متروك التسمية عمدًا لا يسوغ فيه الاجتهاد، حتى لو قضى القاضي بجواز بيعه؛ لا ينفذ قضاؤه؛ لكونه مخالفًا للإجماع، وما رواه الشافعي مخالف للدليل القطعي والإجماع، فكان مردودًا، وعلى فرض صحته يحمل على حالة النسيان ومشهور مذهب


(١) في الأصل: (علي)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>