بعده الآتية، وحكم الجنب حكم الحائض فيما ذكرنا، وإذا وجد التطابق بأدنى شيء يكتفى به، والتطويل فيه يؤول إلى تعسف) انتهى كلامه رحمة الله عليه.
(ولم ير) أي: يعتقد (ابن عباس) رضي الله عنهما (بالقراءة للجنب)؛ أي: بقراءته القرآن (بأسًا)؛ أي: حرجًا، وهذا الأثر وصله ابن المُنْذِر بلفظ: (أن ابن عباس كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب، فقيل له في ذلك، فقال: ما في جوفي أكثر منه)، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا الثقفي، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أنه كان لا يرى بأسًا أن يقرأ الجنب الآية والآيتين)، ورخص الحافظ الطحاوي: قراءة ما دون الآية للجنب، والحائض، والنفساء، وصححه صاحب «الخلاصة»، ومشى عليه فخر الإسلام، ووجهه ما ذكره صاحب «المحيط» : أنَّ النظم والمعنى يقتصر فيما دون الآية، ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم، فتمكَّنت فيه شبهة عدم القرآن، فلهذا لا تجوز الصَّلاة به، والصحيح المنع مطلقًا؛ لأنَّ الأحاديث لم تفصِّل بين القليل والكثير كما سيأتي، وكان أحمد يرخِّص للجنب أن يقرأ الآية ونحوها، وبه قال مالك، وقد حكي عنه أنَّه قال: (تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب؛ لأنَّ الحائض إذا لم تقرأ؛ نسيت القرآن؛ لأنَّ أيام الحيض تتطاول، ومدة الجنابة لا تطول)، قال في «شرح المنية» : (قيل: يكره قراءة ما دون الآية على وجه الدعاء والثناء، وقيل: لا يكره، وهو الصحيح، قاله في «الخلاصة») انتهى.
قلت: فما ذكر عن ابن عباس هنا مبنيٌّ على أنه قصد الدعاء والثناء، ويدل عليه ما رواه ابن المُنْذِر عنه: أنَّه كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب، ولا يخفى أن الورد يقال بقصد الدعاء والثناء، ولهذا قال الفقيه أبو الليث في «العيون» : [إذا] قرأ الفاتحة على وجه الدعاء أو شيئًا من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد القراءة؛ لا بأس به، وهو المختار كما في «غاية البيان»، واختاره شمس الأئمَّة الحلواني، والجمهور من أئمة الحنفية والشافعية وغيرهم أنَّه لا يجوز لحائض ونفساء وجنب قراءة القرآن؛ لقوله عليه السلام: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئًا من القرآن»، رواه الترمذي، وابن ماجه عن ابن عمر، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وشمل إطلاقه الآية وما دونها، وهو قول الإمام الكرخي، وصححه صاحب «الهداية»، والإمام قاضيخان، وحافظ الدين النسفي، وغيرهم، فالحديث حجَّة على إبراهيم النخعي، وعلى مالك، وأحمد، وغيرهم؛ لأنَّ (شيئًا) في الحديث نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وما دون الآية قرآن، فيمتنع كالآية، وفيه نصٌّ على أن الحائض كالجنب في الأحكام المذكورة، فهو حجَّة على مالك في قوله: (إنها تقرأ القرآن)، وتعليله بأنها تنسى القرآن؛ لطول مدة الحيض؛ ممنوع؛ لأنَّ مدته لا تحتمل نسيانه؛ لأنَّها مهما تطاولت؛ لا تزيد على خمسة عشر يومًا على الخلاف وهي غير طويلة، ولا تحتمل نسيانه فيها على أنه قد يمكنها أن تقرأ في قلبها من غير تلفُّظ به؛ فافهم.
قال في «البحر» : وإنما يحرم إذا قصدأنَّه قرآن، أمَّا إذا قرأ على قصد الدعاء أو الثناء؛ فإنَّه لا يحرم، هذا إذا كان مشتملًا على الذكر، أما لو كان مشتملًا على حكم أو خبر؛ فلا يجوز ولو قصد الذكر فيه، كذا في «الخلاصة» و «الشرنبلالية»، وذلك كسورة (أبي لهب) ونحوها؛ فإنه لا يؤثر قصد غير القرآنية في حله؛ فليحفظ، وتمامه في «منهل الطلاب».
(وكان النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) : مما وصله مسلم في «صحيحه» من حديث عائشة رضي الله عنها (يذكر اسم الله) أي: بالقرآن وغيره (على كل جنابة) : ويروى: (على كل أحواله)، ويروى: (على كل أحيانه)، و (على كل) فيدخل فيه حال الجنابة، قال صاحب «عمدة القاري» : (وأراد البخاري بإيراد هذا وبما ذكره في هذا الباب الاستدلال على قراءة الجنب والحائض؛ لأنَّ الذِّكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وبه قال الطبري، وداود، وابن المُنْذِر) انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث بل صريحه يدل على أن المراد بقوله: (يذكر اسم الله) : الأذكار الغير القرآنية؛ كالبسملة، والحمدلة، والحوقلة، والحسبلة، وغيرها من الثناء على الله عزَّ وجلَّ، ومثلها الدعوات الواردة، ويدل عليه أنَّه لم يقيده بكونه من القرآن، فلو كان المراد به الأعم؛ لقيده، وعدم تقييده دليل على أنَّ المراد به الأذكار الغير القرآنية على أنَّ المراد بالذكر لغة وشرعًا الأذكار، وإن كان القرآن يسمَّى ذكرًا، وقد صرَّح في الحديث بلفظ (اسم الله)، وهو يدل على ما قلنا، وبهذا لا دلالة فيه للمؤلف؛ فافهم.
قال في «منهل الطلاب» : (وأما الأذكار؛ فالمنقول إباحتها لجنب وحائض مطلقًا، ويدخل فيها: «اللهم اهدنا فيما هديت...» إلى آخره)، كذا في «البحر»، قال في «النهر» : (بلا خلاف).
واختلف في دعاء القنوت، وهو: «اللهم إنا نستعينك...» إلى آخره الذي هو دعاء القنوت عند الأئمَّة الحنفية؛ فظاهر المذهب عن الإمام الأعظم: أنَّه لا يكره لهم، وعليه الفتوى كما في «الفتاوى الظهيرية» وغيرها، وروي عن الإمام محمَّد: أنه يكره؛ لشبهة كونه قرآنًا؛ لاختلاف الصحابة في كونه قرآنًا، فلا يقرؤه احتياطًا، قلنا: قد حصل الإجماع القطعي اليقين على أنَّه ليس بقرآن، ومعه لا شبهة توجب الاحتياط المذكور، نعم؛ المذكور في «الهداية» وغيرها: استحباب الوضوء لذكر الله تعالى، وترك المستحب لا يوجب كراهة، كما في «البحر»، وقال في «النهر» : (واختلف في دعاء القنوت، والفتوى على عدم كراهته؛ أي: تحريمًا، وإلا؛ فالوضوء لذكر الله مطلقًا مندوب، وتركه خلاف الأولى، وهو مرجع كراهة التنزيه، فما في «البحر» من أن ترك المندوب لا يوجب كراهة مطلقًا؛ ممنوع) انتهى، فافهم.
(وقالت أم عطية) : مما وصله المؤلف في أبواب (العيدين) في أبواب (التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة عنها)، ولفظه: قالت: (كنا نؤمر)؛ أي: من قبل النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أن نُخرِج)؛ بنونٍ مضمومة، وكسر الراء، يوم العيد حتى تخرج البكر في خدرها، وحتى تخرج (الحِيَضَ)؛ بالنصب على المفعولية مع كسر الحاء المهملة، وفتح التحتية، وهذه رواية الأصيلي، وأبي ذر، وابن عساكر، وفي رواية: (أن يَخرج)؛ بمثناة تحتية مفتوحة، و (الحِيَضُ) : مرفوع على الفاعلية، فيكنَّ خلف الناس، (فيكبِّرن بتكبيرهم، ويدعون) : بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته، ورواه أيضًا في باب (خروج النساء الحيض إلى المصلى)، ووجه الاستدلال به ما ذكرناه من أنه لا فرق بين الذكر والتلاوة؛ لأنَّ الذكر أعم، كذا قاله في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن (يدعون) لأكثر الرواة، وللكشميهني: (ويدعين)؛ بتحتية بدل الواو، فرده إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ حيث قال: (قلت: هذا الذي ذكره مخالف لقواعد التصريف؛ لأنَّ هذه الصيغة معتل اللام من ذوات الواو، ويستوي فيها جماعة الذكور والإناث في الخطاب والغيبة جميعًا، وفي التقدير مختلف، فوزن الجمع المذكر: يفعون، ووزن الجمع المؤنث: يفعلن، وسيأتي تمامه في محله) انتهى.
قلت: وظاهر هذا الحديث بل صريحه يدل على أن المباح للحائض والجنب الدعوات فقط الشاملة للذكر والتكبير، فلا دلالة فيه للمؤلف كما لا يخفى، يدلُّ عليه قولها: (فيكبرون بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم)، وهذا لا يشمل القرآن؛ لأنَّه لا يقال فيه: إنه دعاء وتكبير، كما لا يخفى، فالحقُّ ما عليه الجمهور أنَّ الجنب والحائض يحرم عليه قراءة القرآن كما ذكرنا، وقال أئمتنا الأعلام: واختلف المتأخرون في تعليم الحائض والجنب، والأصح: أنَّه لا بأس به إذا كان يلقِّن كلمة كلمة، ولم يكن من قصده أن يقرأ آية،