للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

علمه، وأوفر فهمه، والله يختصُّ برحمته من يشاء.

(أتستطيع)؛ الهمزة للاستفهام؛ أي: هل تستطيع (أن تريني)؛ كلمة (أن) : مصدرية، والجملة محلها نصب على أنها مفعول (تستطيع)، والتقدير: هل تستطيع الإراءة إياي (كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟)، فجملة (يتوضأ) : محلها النصب على أنها خبر (كان)، ويجوز أن تكون تامة، وتكون جملة (يتوضأ) : محلها نصب على الحال، وسبب استفهامه تجويزه أن يكون الصحابي نسي ذلك؛ لبعد عهده، وفيه ملاطفة الطالب للمعلم، وكأنَّه أراد أن يريه ذلك بالفعل؛ ليكون أبلغ في التعليم.

(فقال عبد الله بن زيد)؛ أي: الأنصاري المازني المتقدم: (نعم) : مقول القول، وهو يكون جملة، والتقدير: نعم أستطيع أن أريك كيفية وضوء النبي الأعظم عليه السلام؛ لأنَّي أحفظ ذلك، كما شاهدته، (فدعا) أي: عبد الله بن زيد (بماء)؛ الفاء للتعقيب، وفي رواية وهيب الآتية في الباب بعده: (فدعا بتور من ماء)، وسيأتي الخلاف في تفسير (التور)، وللمؤلف في باب (الغسل) في أول هذا الحديث: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تور من صفر) والتور المذكور يحتمل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد لمَّا سئل عن صفة وضوئه عليه السلام، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها، ويحتمل غيره لكن ما قلناه؛ فافهم.

(فأفرغ)؛ الفاء للتعقيب أيضًا؛ أي: صبَّ من الماء (على يديه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (على يده)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، وفي رواية موسى عن وهيب: (فأكفأ)؛ بهمزتين، وفي رواية سليمان بن حرب في باب (مسح الرأس) عن وهيب: (فكفأ)؛ بهمز آخره فقط، وهما لغتان بمعنًى، يقال: كفأ الإناء وأكفأه؛ إذا أماله، وقال الكسائي: (كفأت الإناء: كببته، وأكفأته: أملته، والمراد في الموضعين: إفراغ الماء من الإناء على اليد)، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

(فغسل يده)؛ بالإفراد، وللأربعة: بالتثنية، والفاء للتعقيب، (مرتين) كذا في رواية مالك، لكن لغيره من الحفاظ: (ثلاثًا)، كما عند مسلم وغيره، فهي مقدمة على رواية الحافظ الواحد، وإنما لم يُحْمَلْ هذا على واقعتين؛ لأنَّ المخرج واحد، والأصل عدم التعدد، كذا في «عمدة القاري»، ثم قال: (وغسل اليدين قبل شروعه في الوضوء فيه أقوال:

الأول: أنَّه سنة، وهو المشهور عندنا، كما في «المحيط» و «المبسوط»، ويدل عليه أنه عليه السلام لم يتوضأ قطٌّ إلا غَسَلَ يديه، وذكر في «النافع» تقديم غسلهما إلى الرسغين سنة تنوب عن الفرض؛ كالفاتحة تنوب عن الواجب وفرض القراءة، واختاره في «الكافي»، وقال شمس الأئمة السرخسي: «إنه سنة لا تنوب عن الفرض، فيعيد غَسْلهما ظاهرهما وباطنهما»، قال: «وهو الأصح»، والذي اختاره الجمهور: أنه فرض وتقديمه سنة، واختاره في «فتح القدير»، وفي الحواشي: تقديم غسل اليدين للمستيقظ؛ لأجل التبرِّك بالحديث، وإلا فسببه شامل له ولغيره، قال في «النهر» : «والأصح الذي عليه الأكثر: أنه سنة مطلقًا للمستيقظ وغيره، لكنه عند تَوَهِّم النجاسة سنة مؤكدة، كما إذا نام لا عن استنجاء، أو كان على بدنه نجاسة، وغير مؤكدة عند عدم توهمهما، كما إذا نام لا عن شيء من ذلك، أو لم يكن مستيقظًا عن نوم» انتهى.

الثاني: أنه مستحبٌّ للشاكِّ في طهارة يديه، وهو المروي عن مالك.

الثالث: أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، قاله أحمد.

الرابع: أنه واجب فيما إذا شكَّ هل أصابته نجاسة أم لا؟ فيجب غسلهما في مشهور قول مالك.

الخامس: أنه واجب على المنتبه من النوم مطلقًا، وبه قال داود وأصحابه).

(ثم تمضمض، واستنثر) وفي رواية: (مضمض واستنشق) (ثلاثًا)، ومعنى (استنثر) : إذا استنشق الماء ثم استخرجه بنَفَس الأنف، والنثرة: الخيشوم وما والاه، وتنشَّق واستنشق الماء في أنفه: صبَّه فيه، ويقال: نثر وانتثر واستنشق: إذا حرَّك النثرة، وهي طرف الأنف.

وزعم ابن حجر أن الاستنثار مستلزم للاستنشاق بلا عكس، وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: لا نسلِّم ذلك، فقد قال ابن الأعرابي وابن قتيبة وغيرهما: «الاستنشاق والاستنثار واحد») انتهى.

قلت: وقد قدَّمنا في باب (الوضوء ثلاثًا) : أن بعض أهل اللغة على عدم اتحادهما لغة، وأما اصطلاحًا؛ فلا خلاف في تغايرهما، فكأن ابن حجر اعتمد قول هذا البعض، وقدمنا أنه شاذٌّ لا يعوَّل عليه، وهذا دأبه في اعتماده على الأقوال الشاذة، ولعلَّه اختلط عليه ما قاله أهل اللغة بما قال أهل الاصطلاح، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام»، وقد تعرَّض لذلك أيضًا في «منهل العليل المطل» فافهم.

فالمضمضة والاستنشاق: سُنَّتان في الوضوء فرضان في الغُسْل، وبه قال الإمام الأعظم، وأصحابه، وسفيان الثوري، وغيرهم، وقال الشافعي: سُنَّتان فيهما، وعنه أنهما واجبتان فيهما، وهو قول ابن أبي ليلى، وحماد، وإسحاق، وقال أبو ثور: (الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة)، وبه قال أحمد في رواية، وأبو عبيد، وزاد في رواية وهيب بعد (ثلاث) : (بثلاث غَرفات)، وهي تفيد: أنه تمضمض ثلاثًا بثلاث غَرفات، واستنشق ثلاثًا بثلاث غَرفات، ويدل له ما رواه الترمذي عن علي الصديق الأصغر رضي الله عنه، وفيه: مضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، وقال: (حديث حسن صحيح)، ولم يُحْكَ فيه أن كل واحد من المضامض والاستنشاقات بماء واحد، لكن مضمونه ظاهر، وهو أنه أخذ لكل واحدة منهما ماء جديدًا، وكذا روى البويطي عن الشافعي: (أنه يأخذ ثلاث غَرفات للمضمضة، وثلاث غَرفات للاستنشاق).

(ثم غسل وجهه ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، ولم تختلف الروايات في ذلك، وكلمة (ثم) في ستة مواضع في الحديث بمعنى: الواو، وليست على معناها الأصلي؛ وهو الإمهال، كذا قاله ابن بطال.

وقال في «عمدة القاري» : («ثم» في هذه المواضع؛ للترتيب؛ لأنَّها تُسْتَعمل لثلاثة معان؛ التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، مع أن في كل واحد منها فيه خلاف، والمراد من الترتيب: هو الترتيب في الإخبار، لا الترتيب في الحكم، مثل ما يقال: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب؛ أي: ثم أخبرك؛ أي: الذي صنعته أمس أعجب) انتهى.

قلت: فلا دلالة في الحديث على وجوب الترتيب؛ لأنَّ المراد به: الإخبار، ويدل عليه الإتيان في الآية بالواو؛ وهي لمطلق الجمع اتفاقًا، لا تفيد الترتيب، فمن أوجب الترتيب؛ فقد زاد على النص، والزيادة عليه لا تجوز، على أنه لو ادَّعى أن الحديث يفيد وجوب الترتيب؛ يقال له: إن الحديث خبر الواحد، وهو يفيد السنية لا الوجوب، فثبت بذلك مذهب الإمام الأعظم والجمهور أنَّ الترتيب سنَّة لا واجب، وهو الحقُّ؛ فليحفظ.

(ثم غسل يديه)؛ بالتثنية، (مرتين مرتين)؛ بتكرار (مرتين)، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين مرتين، وفي رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد: (أنه رأى رسول الله عليه السلام توضأ، فمضمض، ثم استنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويده اليمنى ثلاثًا، والأخرى ثلاثًا، ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه حتى أنقاهما)، قال في «عمدة القاري» : (فيحمل على أنه وضوء آخر، لكن مخرج الحديثين غير متحد) انتهى، وتبعه العجلوني، وذكر القسطلاني رواية مسلم المذكورة في شرح قوله: (فغسل يده مرتين)، وهو غير مناسب؛ لأنَّه يوهم خلاف المراد؛ فافهم.

وهل يغسل يديه هنا من أول الأصابع أو يغسل الذراعين لا غير؛ لتقدم غسل اليدين إلى الرسغ؟ وفي «الذخيرة» : الأصح عندي: أنَّه يعيد غسل اليدين ظاهرهما وباطنهما؛ لأنَّ الأول كان سنة افتتاح الوضوء فلا ينوب عن فرض الوضوء، وهذا ما صحَّحه شمس الأئمة السرخسي، والذي اختاره الجمهور: أنَّ الغسل الأول فرض وتقديمه سنة، وسبق؛ فتأمل.

(إلى المَرفِقين)؛ بالتثنية، وبفتح الميم، وكسر الفاء، وفي رواية: (إلى المرفق)؛ بالإفراد على إرادة الجنس، وهو مفصل الذراع والعضد، سمي بذلك؛ لأنَّه يُرْتَفَقُ به في الاتِّكاء، وهو يدخل في غسل اليدين عند الجمهور، خلافًا للإمام زفر وأبي بكر بن داود، وهو رواية عن مالك.

واستُدِل للجمهور: بأن {إلى} [المائدة: ٦] في الآية بمعنى: (مع) كقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: ٢]؛ أي: معها، ورُدَّ بأنه خلاف الظاهر، وأجيب: بأن القرينة دلَّت عليه، وهي كون ما بعدها من جنس ما قبلها، وقال ابن القصار: (اليد: تُطْلَقُ من رؤوس الأصابع إلى الإبط؛ لحديث عمار أنه تيمم إلى الإبط، وهو من أهل اللغة، ولفظ {إلى} حد للمتروك لا للمغسول، وردَّ بأن السياق ينافيه.

وقال العلَّامة جار الله الزمخشري: («إلى» : لمطلق الغاية، وأمَّا دخولها في الحكم وخروجها عنه؛ فيدوران

<<  <   >  >>