للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

النووي: بأن أحدًا لا يقطع لنفسه بها إنَّما هي مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يختم له، وأجاب الشيخ الإمام بدر الدين العيني: بأن المراد أنها حق في نفس الأمر، أو المراد: الانتقال من دار الدنيا، انتهى.

(و) أن تؤمن (برسله) عليهم السلام، وفي رواية: (ورسله) بإسقاط الموحدة؛ أي: التصديق بأنهم صادقون فيما أَخبروا به عن الله تعالى، وتأخيرهم في الذكر؛ لتأخير إيجادهم لا لأفضلية الملائكة، وفي رواية زيادة: (وكتبه)؛ أي: تصدق بأنها كلام الله، وأنَّ ما اشتملت عليه حقٌّ، (و) أن (تؤمن)؛ أي: تصدق (بالبعث) من القبور وما بعده؛ كالصراط، والميزان، والجنة، والنار، أو المراد بعثة الأنبياء، قال في «عمدة القاري» : والأول أظهر، وقيل: إن قوله: (بلقائه) مكرر؛ لأنَّها داخلة في الإيمان بالبعث، وتغاير تفسيرهما يحقق أنَّها ليست مكررة، وإنما أعاد (تؤمن)؛ لأنَّه إيمان بما سيوجد، وما سبق إيمان بالموجود في الحال؛ فهما نوعان.

ثم (قال) أي: جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإسلام؟ قال) عليه السلام: (الإسلام) أعاده تفخيمًا لأمره: (أن تعبدَ الله)؛ أي: تطيعه فيما أمر ونهى، أو تنطق بالشهادتين، قلت: والأول أظهر، (ولا تشركَ به)؛ بالفتح، وفي رواية: بالضم، زاد الأصيلي: (شيئًا)، (و) أن (تقيم) أي: تديم أداء (الصلاة) المكتوبة؛ كما صرح به مسلم، أو تأتي بها على ما ينبغي، وهو وتاليه من عطف الخاص على العام، (و) أن (تؤدي) أي: تعطي (الزكاة المفروضة) قيَّد بها؛ احترازًا من صدقة النافلة؛ فإنَّها زكاة لغوية، أو من المعجَّلة، أو لأنَّ العرب كانت تدفع المال للسخاء والجود، فنبَّه بالفرض على رفض ما كانوا عليه، قال الزركشي: والظاهر أنها للتأكيد، (و) أن (تصوم رمضان) ولم يذكر الحج، إما ذهولًا أو نسيانًا من الراوي، ويدل له مجيئه في رواية كهمس: (وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا)، وقيل: لأنَّه لم يكن فرض، ورُدَّ بأن في رواية ابن منده بسندٍ على شرط مسلم: أن الرجل جاء في آخر عمره عليه السلام، ولم يذكر الصوم في رواية عطاء الخراساني، واقتصر في حديث أبي عامر على الصلاة والزكاة، ولم يزد في حديث ابن عباس على الشهادتين، وزاد سليمان التيمي بعد ذكر الجميع: الحج، والاعتمار، والاغتسال من الجنابة، وإتمام الوضوء، وقد حصل هنا الفرق بين الإسلام والإيمان، فجعل الإسلام عمل الجوارح، والإيمان عمل القلب.

فالإيمان لغة: التصديق مطلقًا، وفي الشرع: التصديق والنطق معًا، فأحدهما ليس بإيمان، أما التصديق؛ فإنه لا ينجي وحده من النار، وأما النطق؛ فهو وحده نفاق، فتفسيره في الحديث: الإيمان بالتصديق والإسلام بالعمل، إنَّما فسر به إيمان القلب والإسلام في الظاهر، لا الإيمان الشرعي والإسلام الشرعي، والمؤلف يرى أنهما والدين عبارات عن واحد، والمتَّضح: أن محلَّ الخلاف إذا أُفرد لفظ أحدهما، فإن اجتمعا؛ تغايرا كما وقع هنا، كذا قرره القسطلاني، قلت: فيه نظر؛ فإنَّ الإسلام هو الخضوع والانقياد؛ بمعنى: قبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق، ويؤيده قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} [الذاريات: ٣٥ - ٣٦].

وبالجملة: لا يصح في الشرع أن يحكم على واحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، والمراد بعدم تغايرهما: أنَّه لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا الاتحاد بحسب المفهوم؛ لما في ذكره في الكفاية من [أنَّ] الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيَّتِه، وذلك لا يتحقق إلَّا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا، فلا يتغايران، ومن أثبت حدَّ التغاير يقال له: ما حُكْم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا؛ فهو ليس بثابت للآخر، والأظهر بطلان قوله؛ وقدمنا بقية الكلام؛ فافهم.

ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (ما الإحسان؟) (ما) استفهامية مبتدأ، والإحسان خبره، و (أل) فيه للعهد؛ أي: ما الإحسان المتكرر في القرآن المترتب عليه الثواب؟ (قال) عليه السلام مجيبًا له: الإحسان (أن تعبد الله)؛ أي: عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك له (كأنك تراه)؛ أي: مثل حال كونك رائيًا له، (فإن لم تكن تراه) سبحانه؛ فاستمر على إحسان العبادة، (فإنه) تعالى (يراك) دائمًا، والإحسان: الإخلاص أو إجادة العمل، وهذا من جوامع كلمه عليه السلام؛ لأنَّه شامل لمقام المشاهدة ومقام المراقبة.

ثم (قال) جبريل: يا رسول الله؛ (متى) تقوم (الساعة؟) (أل) للعهد، والمراد يوم القيامة (قال) عليه السلام: (ما) أي: ليس (المسؤول) زاد في رواية: (عنها) (بأعلم من السائل)؛ بزيادة الموحدة في (أعلم)؛ لتأكيد معنى النفي، والمراد: نفي علم وقتها؛ لأنَّ علم مجيئها مقطوع به، فهو علم مشترك، وهذا وإن أشعر بالتساوي في العلم إلا أن المراد التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلم وقت مجيئها؛ لقوله بعدُ: «خمسٌ لا يعلمهنَّ إلَّا الله»، وليس السؤال عنها ليعلم الحاضرون كالأسئلة السابقة، بل لينزجروا عن السؤال عنها، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: ٦٣]، فلما وقع الجواب بأنه لا يعلمها إلَّا الله؛ كفُّوا، وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى وجبريل؛ كما في «نوادر الحميدي» عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، (وسأخبرك عن أَشراطها)؛ بفتح الهمزة، جمع شرط؛ بالتحريك؛ أي: علامتها السابقة عليها أو مقدماتها، لا المقارنة لها؛ وهي (إذا ولدت الأمة) أي: وقت ولادة الأمة (ربَّها)؛ أي: مالكها وسيدها، وهو هنا كناية عن كثرة أولاد السراري حتى تصير الأم كأنها أمة لابنها؛ من حيث إنَّها ملك لأبيه، أو أن الإماء تلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعايا، والملك سيد رعيته، أو كناية عن فساد الحال؛ لكثرة بيع أمهات الأولاد، فيتداولهن المُلَّاك، فيشتري الرجل أمه وهو لا يشعر، أو كناية عن كثرة العقوق بأن يعامل الولد أمه معاملة السيدِ أمتَه في الإعانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه (ربها)؛ مجازًا لذلك.

وعورض بأنَّه لا وجه لتخصيص ذلك بولد الأمة إلَّا أن يقال: إنَّه أقرب إلى العقوق، وعند المؤلف في (التفسير) : (ربَّتها) بتاء التأنيث على معنى النسمة؛ ليشمل الذكر والأنثى، وقيل: كراهة أن يقول: (ربَّها)؛ تعظيمًا للفظ (الرب)، وعبر بـ (إذا) الدالة على الجزم؛ لأنَّ الشرط محقَّق الوقوع، ولم يعبر بـ (إنْ)؛ لأنَّه لا يصح أن يقال: إنْ قامت القيامة؛ كان كذا، بل يرتكب قائله محظورًا؛ لأنَّه يشعر بالشك فيه؛ كذا حققه في «عمدة القاري»، وتمامه فيه.

قلت: وهذه الاحتمالات كلها واقعة الآن في زماننا، نعوذ بالله من الجهل والغفلة، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، والتوفيق لما تحبه وترضاه.

(و) من أشراط الساعة (إذا تطاول رُعاةُ الإبل) بضم الراء جمع راع (البُهمُ)؛ بالرفع؛ صفة للرعاة، وبالجر؛ صفة للإبل، ففيه روايتان، وهو بضم الباء الموحدة، جمع (بهيم) على الأولى، وجمع (بهماء) على الثانية، وفي رواية: بفتح الباء الموحدة، فلا وجه له هنا، جمع (بهيمة)؛ صغار الضأن والمعز، والمراد بالبهم: الأسود الذي لا يخالطه لون غيره؛ وهو شر الإبل.

والمعنى؛ أي: وقت تفاخر أهل البادية بإطالة البنيان وتكاثرهم باستيلائهم على الأمر، وتملكهم البلاد بالقهر المقتضي لتبسطهم بالدنيا، فهو عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد والسفلة من الجمَّالين والزراعين وغيرهم، وقد عَدَّ في الحديث من الأشراط علامتين، والجمع يقتضي ثلاثة، فإما أن يكون على أنَّ أقل الجمع اثنان، أو أنَّه اكتفى باثنين لحصول المقصود بهما في علم أشراط الساعة.

وعلمُ وقتها داخل (في) جملة (خمس) من الغيب (لا يعلمهنَّ إلَّا الله، ثم تلا النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: ٣٤])؛ أي: علم وقتها، وفي رواية: ({وَيُنَزِّلُ} .. الآيةَ)؛ بالنصب بتقدير: اقرأ، وبالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ أي: الآيةُ مقروءةٌ إلى آخر السورة، ولمسلم: (إلى قوله: {خَبِيرٌ})، والجار والمجرور متعلق بمحذوف كما قدرناه، فهو على حد قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: ١٢]؛ أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات، وتمام الآية: {وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ}؛ أي: في أيامه المقدَّر له والمحل المعيَّن له، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} أذكرًا أم أنثى؟ تامًا أم ناقصًا؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}؟ من خير أو شر، وربما يعزم على شيء ويفعل خلافه، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}؟ أي: كما لا تدري في أي وقت تموت؟

قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة؛ لهذا الحديث، فمن ادَّعى علم شيء منها غير مستند إلى الرسول عليه السلام؛ كان كاذبًا في دعواه، انتهى.

(ثم أدبر) من الإدبار؛ أي: رجع الرجل السائل، (فقال) عليه السلام: (ردوه)، وفي رواية: (فأخذوا ليردوه) (فلم يروا شيئًا) لا عينه ولا أثره، ولعل قوله: (ردوه) على إيقاظ للصحابة؛ ليتفطنوا إلى أنه ملَك لا بشر، (فقال) عليه السلام: (هذا) ولكريمة: (إن هذا) (جبريل) عليه السلام (جاء يُعلِّم الناس دينهم)؛

<<  <   >  >>