للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

الكرخي: الحيض: دم تصير به المرأة بالغة بابتداء خروجه، وقيل: هو ممتد خارج عن موضع مخصوص وهو القبل، وأما الاستحاضة؛ فهي جريان الدم في غير أوانه وهو ما تراه حال الحبل، أو في أقل من ثلاثة أيام، أو في أكثر من عشرة أيام، أو في حال الصغر، أو في حال المرض، أو بعد بلوغ سن الإياس، أو غير ذلك، كما هو مقرر في الفروع، فإن جميع ذلك استحاضة؛ ويسمى دم الاستحاضة: العاذل بالذال المعجمة، قاله الأزهري، وحكى ابن سيده إهمالها، والجوهري بدل (اللامِ) (راء)؛ فليحفظ.

(وقولِ اللهِ تعالى) وللأَصيلي: (عز وجل)؛ بالجر عطفًا على قوله: (الحيض) المضاف إليه لفظ (كتاب)، وفي رواية: (قولُ الله)؛ بالرفع، وهذه الآية في سورة البقرة ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ}) مصدر؛ كالمجيء والمبيت، ويصلح للزمان والمكان أيضًا، وقد استعملوا لفظ المحاض؛ بمعنى: المصدر، فقالوا: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا ومحاضًا، فبنوا المصدر على (مفعل) بالكسر والفتح، والمراد عن الحيض نفسه؛ أي: حكمه، والحِيضة -بالكسر- الاسم، والجمع الحيض، وأصله من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل؛ فاض، وحاضت الثمرة؛ سالت رطوبتها، ذكر الطبراني عن السدي: أن السائل ثابت بن الدحداح، وقيل: أُسَيْد بن حُضَير، وعَبَّاد بن بشير، وهو قول الأكثرين، وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد تأسَّوا بسيئة بني إسرائيل في تجنب مواكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مُجَاهِد بذلك، وروى مسلم في «صحيحه» عن أنس: (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم؛ لم يواكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أُسَيْد بن الحُضَير، وعَبَّاد بن بشير فقالا: يا رسول الله؛ إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى ظننا أنه قد وجد عليه، فخرجنا فاستقبلهما هدية من لبن، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما).

قال أئمتنا الأعلام: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض؛ فأمر الله تعالى بالقصد بين هذين، وأمر النبي عليه السلام أن يواكلوهن، ويشاربوهن، وأن يكونوا معهن، وأن يفعلوا كل شيء إلا الوطء، فإنكم لم تؤمروا باعتزالهن من البيوت، وإنما أمرتم باعتزال الفروج إذا حضن، ويؤتين إذا طهرن.

({قُلْ هُوَ}) أي: الحيض ({أَذًى})؛ أي: شيء مستقذر مؤذٍ من يقربه نفرة منه، ولا ريب أن اللوث الخارج من الرحم كذلك، فإن الأذى لغة: اسم لما يكره من كل شيء، ولهذا سمى الله تعالى الكلام المكروه أذًى في قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: ١٨٦]، وقال فيما يسأمه الإنسان من مكروه المطر: أذًى في قوله تعالى: {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} [النساء: ١٠٢]، وفي «عمدة القاري» وقال الطبري: وسمِّي الحيض أذًى؛ لنتنه، وقذره، ونجاسته، وقال الخطابي: (الأذى المكروه الذي ليس بشديد، كما قال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَاّ أَذًى} [آل عمران: ١١١]؛ فالمعنى: أن المحيض الأول الدم، وأما الثاني؛ فقد اختلف فيه: أهو نفس الدم أو زمن الحيض أو الفرج؟ والأول هو الأصح) انتهى، وإنما وصفه بالأذى ورتب الحكم عليه بالفاء؛ إشعارًا بأنه العلة، فلذا قال: ({فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ})؛ أي: اجتنبوهن، وتنحَّوا عنهن، يقال: عزلته فانعزل فاعتزل ونحيته فتنحَّى، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} [هود: ٤٢]، والمراد: ترك المجامعة لهن ({فِي المَحِيضِ})؛ أي: تنحَّوا عنهن حال حيضهن؛ أي: في نفس الدم؛ أي: حال سيلأنه، فيكون مصدرًا.

قال في «عمدة القاري» وتبعه القسطلاني: (وهو الأصح، أو زمن الحيض؛ أو المراد: الفرج فيكون موضعًا، ويدل له أن ناسًا من الأعراب قد شق عليهم اعتزال الحيض والبرد شديد، فسألوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقال: «إنكم لم تؤمروا باعتزالهن من البيوت، وإنما أمرتم باعتزال الفروج إذا حضن»).

قلت: والظاهر أن المراد: زمن الحيض؛ لأنَّ دم الحيض قد لا يُدرَى إلا في أول العادة وآخرها، ويبقى في أوسطها منقطعًا، والحال أن المرأة كلها حيض، وقد يقال: إنَّ المراد: وجوده حقيقة أو حكمًا؛ فتأمل، وعموم الآية يقتضي أن الواجب اعتزال الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهو مروي عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، ولما سمعت ميمونة ذلك من ابن عباس؛ قالت له: (أراغب أنت عن سنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم).

ومذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، والأوزاعي، ومالك، وهو أحد قولي الشافعي: أن له مباشرتها بما فوق المئزر وما نزل عنه؛ لقوله عليه السلام للسائل حين سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال: «تشد عليها إزارها، ثم شأنك (١) بأعلاها»، وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: «شدِّي على نفسك إزارك، ثم عودي إلى مضجعك»، وقال الإمام محمَّد بن الحسن، والثوري، وداود الظاهري؛ وهو الصحيح من قولي الشافعي: إنه يجتنب موضع الدم فقط؛ لقوله عليه السلام: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، وروى أبو معشر، عن إبراهيم، عن مسروق قال: سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقالت: (كل شيء إلا الفرج)، ورجحه الإمام العارف الشيخ أحمد السروجي في «شرحه» على «الهداية»، وفي «التأويلات» وبه يفتى، لكن رجح الإمام كمال الدين ابن الهمام في «شرحه» على «الهداية» قول الإمام الأعظم، وتبعه في «البحر»، و «النهر»، وغيرهما قالوا: وعليه الفتوى وهو الصحيح كما في أكثر المعتبرات؛ فيحرم على الزوج الاستمتاع بما بين السرة والركبة؛ وهو المراد بما تحت الإزار، ويحل ما فوق السرة وما تحت الركبة سواء كان بحائل أو لا، ولو تلطخ دمًا كما في «منهل الطلاب»، وتمامه فيه.

فإن قلت: دم الاستحاضة كدم الحيض في كونه أذًى مع أنه لا يوجب الاعتزال وترك الوطء، فلو كانت (٢) العلة للاعتزال؛ لوجب الاعتزال عن المرأة وقت الاستحاضة.

قلت: (دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة؛ لمرضت المرأة، فلذلك الدم جارٍ مجرى البول والغائط، فكان أذًى مثلهما وقذرًا نجسًا، وأما دم الاستحاضة؛ فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر من فم الرحم، فلا يكون أذًى، وإن كان نجسًا؛ فهو دم صحة لا فساد) انتهى.

({وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ})؛ أي: لا تطؤوهن، وفسر بذلك قوله: {فَاعْتَزِلُوا} ولولاه؛ لتوهم بالاعتزال المفارقة بكل البدن في كل شيء، وقيل: أكده بصيغتين؛ نهي وأمر مبالغة في المنع لما أن الزوجين مجتمعان غالبًا ومعهما داعيان إليه ظاهرًا؛ فافهم.

({حتى يطهرن})؛ بالتشديد في قراءة حمزة، والكسائي، وعاصم؛ أي: يغتسلن، وبالتخفيف في قراءة الباقين؛ أي: يخرجن من الحيض بانقطاع الدم، ورجح أبو علي الفارسي قراءة التخفيف؛ لأنَّه ثلاثي مضاد لـ (طمث)، وهو ثلاثي، فإذا كانت أيامها عشرة التي هي أكثر أيام الحيض، فكما انقطع؛ حل للزوج والمولى وطؤها وإن لم تغتسل، وإذا كانت دون ذلك وانقطع؛ حل وطؤها إذا اغتسلت وإن لم تغتسل، فإن مضى عليها وقت صلاة؛ حل أيضًا وهذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم وهو قول مُجَاهِد، وعكرمة، وطاووس، وغيرهم، وذلك لأنَّ قوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} نهي عن قربانهن إلى غاية وهي أن يطهرن؛ أي: ينقطع حيضهن وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي؛ وجب ألَّا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض؛ فإن معنى الغاية في الشرط: هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف هو معنى قوله: {يطَّهَّرن} بالتشديد بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: ١٠٨]، وقول كميت:

وما كانت الأنصار فيها أذلة... ولا عسى فيها إذا الناس غيب


(١) في الأصل: (شابك)، وهو تصحيف.
(٢) في الأصل: (كان)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>