للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وأيضًا فإن القراءتين كالآيتين؛ فيجب أن يعمل بهما، فنحن نحمل كل واحدة منهما على معنًى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل؛ فإنا لا نجيز وطأها حتى تغتسل؛ لأنَّه لا يؤمن عوده، ونحمل الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر؛ فيجوز حينئذٍ وطؤها وإن لم تغتسل، وهذا ظاهر الآية المذكورة، ويدل لهذا أنه في مصحف عبد الله بن مسعود، وأُبيِّ بن كعب: {يتطهرن}، وفي مصحف أنس بن مالك: (ولا تقربوا النساء في حيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن) فـ (حتى) في الآية بمعنى: (إلى)، والفعل بعدها منصوب بإضمار (أن)، وأصل (يطَّهَّرن) بالتشديد يتطهرن، كما في هذين المصحفين، فأدغم على أن المراد بالطهارة: الطهارة الحاصلة بانقطاع الدم.

وقال الإمام زفر، ومالك، والشافعي: لا يجوز وطؤها حتى تغتسل بالماء، قالوا: إن الله علق الحكم فيها على شرطين؛ أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله: {حَتَّى يَطَّهَّرْنَ (١) أي: يفعلن الغسل بالماء كالجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره.

ورُدَّ بأن مؤدَّى قراءة التخفيف انتهاء الحرمة العارضة على الحل بالانقطاع مطلقًا، وإذا انتهت الحرمة العارضة على الحل؛ حلت بالضرورة، ومؤدَّى قراءة التشديد عدم انتهاء الحرمة عندهم، بل بعد الغسل؛ فوجب الجمع ما أمكن، فحملنا التخفيف على الانقطاع؛ لأكثر المدة، والتشديد عليه؛ لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض وهو المناسب؛ لأنَّ في توقيف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضًا حكمًا وهو مناف لحكم الشرع عليها؛ لوجوب الصَّلاة المستلزم إنزاله إياها طاهرة قطعًا، بخلاف تمام العادة، فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر، بل يجوز الحيض بعده، ولهذا لو زادت ولم تجاوز العشرة؛ كان الكل حيضًا بالاتفاق.

بقي أن مقتضى التشديد ثبوت الحرمة قبل الغسل؛ فرفع الحرمة قبله بخروج الوقت معارضة للنص بالمعنى، والجواب: أن قراءة التشديد خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف، فجاز أن تخص ثانيًا بالمعنى، كما لا يخفى وتمامه في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب.

({فَإِذَا تَطَهَّرْنَ})؛ أي: اغتسلن، كما في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦]؛ أي: اغسلوا أبدانكم؛ فإن الاغتسال بعد تمام العادة قبل الأكثر فرض، وبعد الأكثر مستحب هذا ظاهر الآية، وحاصل الكلام: أن الدم إما أن ينقطع؛ لتمام العشرة، أو دونها؛ لتمام العادة، أو دونها؛ ففي الأول يحل وطؤها بمجرد الانقطاع، ويستحب له ألَّا يطأها حتى تغتسل، وفي الثالث لا يقربها وإن اغتسلت ما لم تمض عادتها، وفي الثاني إن اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة؛ حل، وإلا؛ فلا؛ يعني: خرج وقت الصَّلاة حتى صارت الصَّلاة دينًا في ذمتها، وعلى هذا التفصيل انقطاع النفاس إن كان لها عادة فيها فانقطع دونها؛ لا يقربها حتى تمضي عادتها بالشرط أو لتمامها؛ حل إذا خرج الوقت التي طهرت فيه، أو لتمام الأربعين؛ حل مطلقًا، كذا في «منهل الطلاب» ({فَأْتُوهُنَّ})؛ أي: جامعوهن، فكنى بالإتيان عن الوطء، وهذا أمر إباحة ورخصة يدل عليه ما قال مُجَاهِد: سألت ابن عباس عن هذا فقال: هذا أمر إباحة ورخصة، وينصرف إلى ما وقع النهي عنه وهو القربان في موضع الحيض لأجل الحيض، فإذا زال؛ أبيح الإتيان في ذلك الموضع، وقد انعقد الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة، وبه يظهر عدم دلالته على أن المراد بالتطهير: الغسل بالماء؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لكان الأمر واجبًا؛ لأنَّ الأمر الواجب هو الذي يقتضي الوجه الأكمل بخلاف هذا، فإنه لا يقتضيه، بل المراد بالتطهير: الاغتسال فيما إذا انقطع لدون العشرة، أو الانقطاع فقط فيما إذا كان انقطع لتمام العشرة وهذا ظاهر؛ لأنَّ الحائضة في العادة تتلطخ بالدم وهو نجس إجماعًا أخبث من غيره لنتن ريحه، وإذا كانت كذلك؛ صدق عليها أنها نجسة، وصدق عليها حالة الانقطاع لتمام العشرة أنها طهرت وإن لم تغتسل، وهذا من باب عموم المجاز؛ بأن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، كما عرف في الأصول؛ فافهم، ({مِنْ حَيْثُ})؛ أي: في حيث، فـ (من)؛ بمعنى: (في)؛ كقوله تعالى: {إِذَا (٢) نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: ٩]؛ أي: في يوم الجمعة، وقيل: المعنى: أي: من الوجه الذي ({أَمَرَكُمُ اللهُ})؛ أي: أذن لكم فيه وهو القبل في غير صوم، وإحرام، واعتكاف؛ لأنَّ الله تعالى لما حرم إتيان القبل في أيام الحيض للأذى؛ فيحرم إتيان الدبر في الأحوال كلها؛ لما فيه من الأذى وهو القذر، ولأن المراد من قوله تعالى: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: ١٦] أهل اللواطة، فهو مخصوص بالرجال، كذا قال مُجَاهِد وغيره، وما ذلك إلا للأذى؛ فحرمة اللواطة ثابت بالقياس على حرمة وطء الحائض والجامع بينهما الأذى في كلٍّ، وتمامه في كتب الأصول، ({إِنَّ اللهَ يُحِبُّ}) أي: يرحم ويثيب ({التَّوَّابِينَ}) أي: من الذنوب والشرك، ({وَيُحِبُّ}) أي: يرحم ويثيب ({المُتَطَهِّرِينَ}) [البقرة: ٢٢٢]؛ أي: المتنزهين عن الفواحش والأقذار؛ كمجامعة الحائض، والإتيان في أدبارهن، يدل له قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: ٨٢]، وإنما قدَّم الذي أذنب على من لم يذنب؛ لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، يدل عليه قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: ٣٢]، والله أعلم.

بقي ما لو وطئها في الفرج حالة الحيض عالمًا بالحرمة عامدًا مختارًا غير مستحل له، فقال الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي: إنه كبيرة وليس عليه سوى التوبة والاستغفار، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سَعِيْد، وبه قال داود الظاهري.

قال علماؤنا: وهل يجب التعزير أم لا؟

توقف فيه صاحب «البحر» واستظهر في «منهل الطلاب» : أنه إذا كان جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا؛ لا يعزر، وإن كان عالمًا بالحرمة عامدًا مختارًا غير مستحل؛ يعزر؛ لأنَّه حرام، ويورث داء الجذام، كما صرح به علماء الطب.

وقال علماؤنا: يستحب له أن يتصدق بدينار، وقيل: بنصفه، كما في «الجوهرة»، وهو قول الإمام محمَّد بن الحسن، وأحمد ابن حنبل، ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يتصدق بدينار أو نصف دينار».

وقال في «فتح القدير» : (إن وطئ في أول الحيض؛ يستحب أن يتصدق بدينار، وإن كان في وسطه أو آخره؛ فنصف دينار، وقيل: إن كان الدم أسود؛ يتصدق بدينار، وإن كان أصفر؛ فبنصف دينار)، ويدل لذلك ما رواه أبو داود، والحاكم وصححه: إذا واقع الرجل أهله وهي حائض إن كان دمًا أحمر؛ فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر؛ فليتصدق بنصف دينار، ورواه الترمذي، والدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا.

والظاهر: أنه كما يندب له التصدق يندب لها؛ لتمكينها نفسها إياه، ومصرف ذلك مصرف الزكاة، فإن وطئها مستحلًّا؛ يكفر، كما جزم به في «الجوهرة»، و «فتح القدير»، و «المبسوط»، و «الاختيار»، وغيرها؛ لأنَّ حرمته ثبتت بدليل قطعي.

وفي «النوادر» عن الإمام محمَّد بن الحسن أنه لا يكفر، وصحح هذه الرواية صاحب «الخلاصة»، و «البزازية»، قال صاحب «البحر» : (فعلى هذا لا يفتى


(١) في الأصل: (يتطهرن)، والمثبت موافق للتلاوة.
(٢) في الأصل: (فإذا)، والمثبت موافق للتلاوة.

<<  <   >  >>