للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ربِّه سبحانه وتعالى (ثلاثًا)؛ أي: قال هذه الجملة وكررها ثلاث مرات، وزاد مسلم في رواية زكريا: (وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل؛ سأل ثلاثًا)، وعند المؤلف في (الطهارة) : (فيشق ذلك -أي: الدعاء- عليهم؛ إذ دعا عليهم، قال -أي: ابن مسعود-: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة)؛ يعني: كان اعتقادهم إجابة الدعوة لا من جهة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، بل من جهة المكان؛ لشرف البلد ولتعظيمهم له مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم الخليل عليه السَّلام، وعند مسلم من رواية زكريا: (فلما سمعوا صوته؛ ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته)، ففيه: معرفة الكفار صدق النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لخوفهم من دعائه، ولكنْ لأجل شقائهم الأزلي؛ حملهم الحسد والعناد على ترك الانقياد له عليه السَّلام.

وفيه: جواز الدعاء على الظالم، وفصَّل بعضهم فقال: محلُّه ما إذا كان كافرًا، أمَّا المسلم؛ فيستحب الاستغفار له والدعاء له بالتوبة، قاله الشَّارح هناك.

وزعم ابن حجر أنَّه لو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر؛ لما كان بعيدًا؛ لاحتمال أنَّه عليه السَّلام اطَّلع عليهم أنَّهم لا يؤمنون، والأَولى أن يُدْعَى لكلِّ حيٍّ بالهداية، انتهى.

قلت: وفيه نظر، بل الحديث دالٌّ على جواز الدعاء على الكافر والظالم، ويدلُّ عليه عموم قوله تعالى حكاية عن نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: ٢٦]، وقوله تعالى: {أَلا لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: ١٨]، لأنَّ في الدعاء بالهلاك لهم تخليص الناس من شرِّهم وأذاهم لا سيما من يتظاهر في زماننا في إيذاء المسلمين ويتجاسرون عليهم بالفجور والشرور، فلا ريب أن الدعاء عليهم جائز، بل لو قيل بوجوبه؛ لم يبعد لا سيما جماعة الكلب العقور المحشوَّة بالمكر والحسد والشرور، اللهم أحسن عاقبتنا.

(ثم سمَّى) أي: عيَّن أفرادَ الجمع من قريش النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في دعائه ما كان أجمله أولًا، ودعاؤه عليه السَّلام عليهم المجمل والمفصل إنَّما كان خارج الصلاة بعد الفراغ منها؛ لقوله فيما تقدم: (فلما قضى الصلاة)، ولمسلم: (فلما قضى صلاته)، وكذلك عند البزار وأبي داود، لكن في «مسلم» : أنَّه كان مستقبل القبلة، وذلك من عادته عليه السَّلام في الدعاء أنَّه يدعو دبر الصلاة مستقبل القبلة، ووقع عند المؤلف في (الطهارة) : (فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: اللهم...)؛ الحديث، ففيه: أنَّه قد يُتوَّهم أن الدعاء وقع في الصلاة؛ وهو ممنوع، فإنَّ تصريح المؤلف هنا ومسلم وغيرهما بقوله: (فلما قضى الصلاة) يدلُّ على أنَّه وقع بعد الفراغ من الصلاة، على أنَّ (١) كلمة (ثم) تشعر بمهلة بين الرفع والدعاء، وقد وقع بهذه المهلة بقية أفعال الصلاة، ويحتمل أن الراوي اختصر ذلك، والصَّواب: أن الرواية هناك مختصرة من الرواية هنا، ويدلُّ لها ما في «مسلم» وغيره، والروايات تفسِّر بعضها بعضًا؛ فليحفظ.

فقال: (اللهم عليك بعَمرو بن هشام)؛ بفتح العين: المخزومي، وعند المؤلف في (الطهارة) : (اللهم عليك بأبي جَهل)؛ بفتح الجيم، وهو كنية عمرو بن هشام، فلعله عليه السَّلام سمَّاه وكنَّاه معًا.

قلت: بل سمَّاه تارة، وكنَّاه أخرى؛ لأنَّه عليه السَّلام من عادته إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، كما في «مسلم»، ويعرف أيضًا بابن الحنظلية، وكان أحول مأبونًا؛ لقول عتبة بن ربيعة فيه: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، وكان يكنَّى في الجاهلية: بأبي الحكم، فكنَّاه عليه السَّلام بأبي جهل، وفيه يقول الشاعر:

الناس كنَّوه أبا حكم... والله كنَّاه أبا جهل

وقيل: يكنَّى أبا الوليد، ولمَّا رآه عليه السَّلام؛ قال: «هذا فرعون هذه الأمة».

(وعُتْبةَ) بِضَمِّ العين، وسكون الفوقية، والجر بالفتحة، (بن رَبيعة)؛ بفتح الرَّاء، بالجر بالفتحة، ابن عبد شمس، (وشيبة بن ربيعة) هو أخو عتبة، (والوَلِيد بن عُتْبة)؛ بِضَمِّ العين وسكون المثناة الفوقية، وواو الوَلِيد مفتوحة ولامه مكسورة، وهو المذكور آنفًا، ووقع عند مسلم من رواية زكريا: (والوليد بن عقبة)؛ بالقاف، وهو وهَمٌ نبَّه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق شيخ مسلم على الصَّواب، أفاده إمامنا الشَّارح هناك، (وأُمَيَّةَ)؛ بالجر بالفتحة عطفًا على المجرور، وهو بِضَمِّ الهمزة، وتخفيف الميم، وتشديد التحتية (بن خلف) هو ابن صفوان بن أمية، وعند المؤلف في (الطهارة) : (أو أُبَي بن خلف) بالشك من شعبة، والصَّحيح: أميَّة؛ لأنَّ المقتول ببدر أميَّة بإطباق أصحاب المغازي عليه، وأخوه أُبَي بن خلف قُتِلَ بأُحُد، قاله الشَّارح، (وعُقْبة) بِضَمِّ العين وسكون القاف (بن أبي مُعَيْط)؛ بِضَمِّ الميم، وفتح المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة، واسمه أبان بن أبي عمرو لعنه الله، (وعُمَارة) بِضَمِّ العين المهملة، وتخفيف الميم (بن الوَلِيد)؛ بفتح الواو مع كسر اللَّام، ابن المغيرة، وعند المؤلف في (الطهارة) : (وعد السَّابع فلم يحفظه)، قال إمامنا الشَّارح: ولم يذكره الراوي هناك، وههنا ذكره؛ لأنَّه هناك نسيه وهنا تذكره، انتهى، وقد خبط الكرماني هنا وخلط؛ فاجتنبه، ونقله العجلوني عنه؛ فافهم.

(قال عبد الله) أي: ابن مسعود رضي الله عنه: (فوالله) وعند المؤلف: (فوالذي نفسي بيده)، وعند مسلم: (والذي بعث محمَّدًا بالحق) وعند النسائي: (والذي أنزل عليه الكتاب)، والمراد باليد: القدرة؛ أي: بقدرته، ولعلَّ ابن مسعود قال ذلك كله تأكيدًا وتأسيسًا لكلامه، ففيه: جواز الحلف من غير استحلاف، وإنما صدَّر كلامه باليمين؛ لشدَّة تثبُّته فيما يقوله فيهم لعنهم الله، (لقد رأيتهم)؛ أي: الجمع من قريش، زاد المؤلف: (لقد رأيت الذين عدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) (صرعى) : جمع صريع، كجرحى جمع جريح، مفعول ثانٍ لـ (رأيت)، قاله إمامنا الشَّارح وتبعه القسطلاني؛ أي: مقتولين.

وزعم العجلوني أنَّه ينبغي أن يكون حالًا؛ فإنَّ (رأيت) بصرية، وإن أمكن توجيه الأول بمعنى: مقتول، انتهى.

قلت: وفيه بُعد؛ لأنَّ الصَّواب: كونه مفعولًا ثانيًا؛ لأنَّ (رأيت) علمية؛ بمعنى: اعتقدت؛ أي: صِدْقه عليه السَّلام في الدعاء عليهم حيث إنَّه نفذ فيهم قريبًا، ولهذا أكَّده بالأيمان؛ فافهم.

(يوم بدر) : هي اسم موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهي ماء معروف على نحو أربع مراحل من المدينة مذكرًا ومؤنثًا، وقيل: بدر: بئر كانت لرجل يسمى بدرًا، فسميت باسمه، انتهى، (ثم سُحِبوا)؛ بِضَمِّ أوله على البناء للمفعول؛ أي: جُرُّوا كما يُجرُّ الكلب المنتن (إلى القَلِيب)؛ بفتح القاف وكسر اللَّام، وهو البئر قبل أن تطوى، يذكَّر ويؤنَّث، وقال أبو عبيد: هي العادية القديمة من لدن عاد لا يعرف صاحبها، وقال ابن سيده: هي البئر مطلقًا، وجمع القلة: أقلبة (٢)، والكثرة: قُلُب، أفاده إمامنا الشَّارح، (قَلِيبِ بدر)؛ بالجر بدل من سابقه؛ على حد قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: ١٦ - ١٧]، ويجوز فيه الرفع والنصب من جهة العربية، أمَّا الرفع؛ فعلى أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هو قليب بدر، وأمَّا النصب؛ فعلى تقدير: أعني قليبَ بدر، قاله إمام الشَّارحين، فأفاد أن الرواية بالجر فقط، وبهذا ظهر فساد تعميم العجلوني الأوجه الثلاثة مع عدم بيان الرواية منها؛ فافهم.

زاد شعبة في روايته: (إلا أميَّة فإنَّه تقطَّعت أوصاله؛ لأنَّه كان بادنًا؛ أي: سمينًا، وإلا عمَارة فإنَّه مات في خلافة عمر رضي الله عنه في أرض الحبشة)، فعلى هذا يحمل قوله: (لقد رأيتهم)؛ أي: رأيت أكثرهم؛ فتأمل، وقد يقال: إنَّه رآهم جميعًا صرعى؛ أي: مطرحين في القَلِيب ولا يدري هل قتلوا جميعًا أم أكثرهم؟ فأخبر عمَّا رآه منهم؛ فهو على إطلاقه؛ فتدبَّر.

واعلم أن أبا جهل قتله معاذ بن عمرو بن


(١) في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (أقبلة)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>