للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من باب (ضرب)، لكنه يتعدى باللَّام، كما ذكره في «الصِّحاح»؛ حيث قال: عمدت للشيء أعمد عمدًا: قصدت له؛ أي: تعمدت، انتهى، (إلى فرثها)؛ أي: لفرثها على ما في «الصِّحاح» (ودمها)، والفرث: التفل الذي في الكرش، وقال ابن عبَّاس: إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كونها؛ كان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا؛ يعني: أن أوسطه يكون مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن؛ لأنَّهما لا يكونان في الكرش، بل الكبد يجذب صفارة الطعام المهضم في الكرش، وكل حيوان له كرش إلا بني آدم، فإنَّه ليس له كرش، بل معدة وبها يجتمع المأكول وينهضم ويتولد دمًا وبلغمًا وسودًا وصفرًا، ويجري كل واحد إلى مكانه، فالدم مقره القلب، وسلطانه الدماغ، وتمامه في كتب الطب، وقد أغفل هذا المعنى العجلوني ولم يتعرض له ولم يصب في ذلك؛ لأنَّه مهم؛ فافهم، (وسَلَاها)؛ بفتح السين المهملة واللَّام، وبالقصر؛ وهي الجلدة التي يكونفيها الولد، والجمع: أسلاء، وخص الأصمعي السلى بالماشية، وفي الناس بالمشيمة، وفي «المحكم» : السلى: يكون للناس والخيل، وفي «الصِّحاح» : السلى؛ مقصور: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي، إن نزعت عن وجه الفصيل بساعة؛ يولد، وإلا؛ قتلته، وكذلك إذا انقطع السلى في البطن، وألف (السلى) منقلبة عن ياء تحتية، ويقويه ما حكاه أبو عبيد عن بعضهم أنَّه يقول: سليت الشاة؛ إذا نزعت سلاها، أفاده شارحنا الهمام هناك، وتخصيص الكرماني (السلى) بما يكون فيه ولد الناقة؛ تفسير وتخصيص من عنده مردود عليه؛ لأنَّه مخالف لأئمة اللُّغة؛ فليحفظ، (فيجيء به) أي: بما ذكر، (ثم يمهلُه)؛ بالرفع أو النصب تبعًا لـ (يعمد)، وهو من الإمهال؛ وهو الانتظار؛ يعني: ينتظره (حتى إذا سجد)؛ أي: إلى أن يسجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فهو غاية للإمهال (١)؛ (وضعه)؛ أي: ما ذكر، وهو جواب (إذا)، زاد المؤلف سابقًا: (على ظهره) (بين كتفيه)؛ بالتثنية على الإضافة، كما قدمناه، وكأنَّه أمره أن يقف خلف ظهره، فلم يدر إلا وقد وضعه عليه، (فانبعث أشقاهم)؛ أي: انتهض وأشرع، وهو مطاوع (بعث)، يقال: بعثه وانبعثه بمعنًى؛ فانبعث؛ أي: أشقى القوم؛ وهو عقبة بن أبي مُعَيط؛ بضم أوله، وفتح ثانيه، كما سماه شعبة عند مسلم، وكذا الإسماعيلي، ورواه أبو داود في «مسنده» بلفظ: (فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره)، وقال الدَّاودي: أشقى القوم: هو أبو جهل، قلت: وعليه فكونه أشقاهم ظاهر في نفس الأمر، لكن الذي تولى ذلك هو عقبة؛ فافهم، والصَّحيح الأول، وعليه الشَّارحون وإمامهم، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشد كفرًا منه؛ لأنَّه مع مشاركتهم في الكفر انفرد عقبة بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب وهو قُتِلَ صبرًا، كما سيأتي.

(فلمَّا سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في صلاته؛ (وضعه) أي: ما ذكر على ظهره (بين كتفيه)؛ بالتثنية والإضافة.

فإن قلت: لم لم يره النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حين وضعه، وقد وَرَد أنَّه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه؟

قلت: يحتمل أنَّه لم يره؛ لأنَّه مشغول بالعبادة ومستغرق فيها، ويحتمل أنَّه رآه وتركه حتى فعل ما فعل؛ لينفذ قضاء الله تعالى فيهم، أو لأنَّه كان الإسلام وقتئذ ضعيفًا فخشي وقوع الفتنة فتركه، والله أعلم.

(وثبت) أي: استقام أو استمر (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في صلاته (ساجدًا)؛ أي: لا يرفع رأسه، كما [في] رواية المؤلف هناك؛ أي: من السُّجود بل أبطأ فيه، (فضحكوا)؛ أي: الجمع من قريش؛ أي: استهزاءً، قاتلهم الله تعالى (حتى مال بعضهم إلى)؛ بمعنى: على، كما في رواية الأربعة، أو بالعكس (بعض من الضحك)؛ أي: من كثرته، وكأنَّه وصل إلى حد القهقهة، عليهم الغضب.

وزعم العجلوني أن في رواية غير هذا الموضع: (حتى مال بعضهم إلى بعض من كثرة الضحك).

قلت: فيه خفاء؛ لأنَّه لم يبين أن هذه في «البخاري» أم في غيره؟ وفي أي بحث هي؟ ومن رواها؟ والجهل في ذلك غير مقبول؛ فافهم.

(فانطلق منطلق) : لم يعرف اسمه، وزعم ابن حجر يحتمل أنَّه ابن مسعود الراوي، انتهى، قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّه لو كان هو؛ لقال: فانطلقتُ، وإنما مراده أن المنطلق غيره، ويدل عليه رواية المؤلف في (الطهارة)، ولفظه هناك: قال -أي: ابن مسعود-: (فانبعث أشقى القوم به فنظر حتى إذا سجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئًا لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة)، فهذا يدل على أنَّ ابن مسعود قد كان حاضرًا وقتئذٍ، واستمر حضوره حتى جاءت فاطمة ونظر ما فعلته، وأن المنطلق غيره؛ لقوله: (وأنا أنظر)؛ أي: إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأنه قد ثبت ساجدًا وهو على ظهره إلى أن جاءت فاطمة، فهذا يدلُّ على أنَّه لم يفارقه، وأنَّه لم ينطلق، بل كان غيره؛ فليحفظ، (إلى فاطمة) هي ابنة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (وهي جويرية (٢) أي: صغيرة، وهو تصغير جارية، قاله الشَّارح، والظَّاهر: أنَّها كانت دون عشر أو دون البلوغ، وتزوجها علي بن أبي طالب وكان سنُّها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، بعد وقعة أحد، توفيت بعد أبيها بستة أشهر بالمدينة يوم الثُّلاث، لثلاث خلون من رمضان، ودفنت ليلًا، وفضائلها كثيرة، وكفى بها شرفًا كونها بضعة من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، أفاده الشَّارح هناك، (فأقبلت) أي: على أبيها عليه السَّلام (تسعى) أي: تمشي إليه بلين ورفق، وزعم العجلوني؛ أي: تسرع، قلت: هو تفسير من عنده؛ لأنَّ السعي ليس بمعنى: الإسراع، بل معناه: المشي عادة، كما ذكرنا، ويدلُّ عليه قوله عليه السَّلام: «إذا أتيتم الصلاة؛ فائتوها وأنتم تسعون، ولا تأتوها هرولة»، ولا يخفى أن الإتيان إلى الصلاة بالإسراع مكروه، وهو الهرولة، أما السعي؛ فهو بلين ورفق، وهو مراد الحديث وحديث الباب؛ لأنَّ الصلاة المطلوب فيها التذلل والخضوع في المشي إليها، والإسراع ينافيه؛ فافهم، (وثبت النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم ساجدًا)؛ أي: استقام أو استمر في صلاته حالة كونه ساجدًا لا يرفع رأسه من السُّجود، بل أبطأ فيه، (حتى ألقته)؛ أي: رمت ما وضعوه عن ظهره عليه السَّلام، وعند المؤلِّف سابقًا: (فطرحته عن ظهره)، وإنَّما لم يطرحه ابن مسعود رضي الله عنه مع أنَّه كان حاضرًا وقتئذٍ؛ لأنَّه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هذليًّا حليفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارًا، فخاف من أذاهم له، ويدلُّ عليه ما عند المؤلف قال: (وأنا أنظر لو كان لي منعة) -أي: عزٌّ وجاه-؛ (لطرحته)، كما صرح به مسلم، وعند البزار: (وأنا أرهب منهم)؛ فافهم.

(وأقبلت) أي: فاطمة (عليهم) أي: على الجمع من قريش (تسُبهم)؛ بِضَمِّ السين المهملة؛ أي: تشتمهم، زاد البزار في روايته: (فلم يردُّوا عليها شيئًا)، ففيه: دليل على قوة نفس فاطمة الزهراء مع صغرها؛ لشرفها في نفسها وقوتها؛ لكونها صرَّحت بشتمهم وهم من رؤساء قريش، فلم يردُّوا عليها؛ خوفًا من أن تطرحه عليهم؛ لشدَّة تغيُّظها من هذا الفعل القبيح، قاتلهم الله تعالى، وهذا بعض أفعال الكلب المملوءة بالمكر والحسد والفجور، كما بيَّنتُ ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المحزون (٣)»؛ فافهم، (فلما قضى رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم الصلاة)؛ أي: فرغ من صلاته وأتمَّها، وعند البزار: (فلما قضى صلاته)، وكذا للمؤلف في (الطهارة)، ونحوه لمسلم والنسائي؛ (قال اللهم) أي: يا الله (عليك بقريش)؛ أي: بهلاكهم، أو ألصق عذابك بكفار قريش، أو عليك بقريش الكفار، فهو على حذف مضاف أو صفة، وزاد البزار من رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق: (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد) (اللهم عليك بقريش) والمراد: الكفار منهم، أو من سمَّى منهم؛ وهم أبو جهل وأصحابه، فهو عامٌّ أريد به الخصوص بقرينة القصة، لا يقال: كيف جاز الدعاء على كل قريش وفيهم مسلمون؟ لأنا نقول: لا عموم للَّفظ؛ فافهم، (اللهم عليك بقريش) وعند أبي داود عن شعبة في هذا الحديث قال ابن مسعود: (لم أره دعا عليهم إلا يومئذٍ)، وإنما استحقُّوا الدعاء حينئذٍ؛ لما قدموا عليه من التهكُّم والإيذاء حال عبادة


(١) في الأصل: (للإمهار)، وهو تحريف.
(٢) في الأصل: (جويرة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (المخزون)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>