للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

ما قبلها، ويجمع على أبواب، وقد قالوا: أبوبة، وإنما جُمِعَ في قول القتال الكلابي:

هتَّاك (١) أخبية ولَّاج أبوبة... . . . . . . . . . . . . . . .

للإزدواج، ولو أفرده؛ لم يجز، ويقال: أبواب مبوَّبة، كما يقال: أصناف مصنَّفة، والبابة: الخصلة، والبابات: الوجوه، قال ابن السكيت: البابة عند العرب: الوجه، انتهى.

(وقولِ الله عز وجل)؛ بالجر عطفًا على (مواقيت)؛ أي: هذا باب مواقيت الصلاة وباب بيان قوله... إلخ، وللأصيلي: (وقولِه عزَّ وجلَّ).

وزعم العجلوني أنَّه يجوز فيه الرفع، كما في بعض الأصول، ووجهه ظاهر، انتهى.

قلت: وجهه غير ظاهر؛ لأنَّه إذا جعل عطفًا على (كتاب) أو (باب) أو غيرهما؛ يكون تكلفًا، ولا يجوز جعله خبر مبتدأ محذوف؛ لوجود الواو العاطفة مع تعلقها بما قبلها وما بعدها، وكونها في بعض الأصول؛ لم يبين ما هذا الأصل من أيَّ راوٍ هو؟ والذي عليه الجمُّ الغفير من الشَّارحين أنَّه بالجر فقط لا سيما إمامهم صاحب «العمدة»، فإنَّه اقتصر على الجر، فلو كان ثمة رواية بالرفع؛ لذكرها؛ فافهم.

({إِنَّ الصَّلاةَ}) أي: الشرعيَّة ({كَانَتْ}) فيه: دليل على أنَّ الصلاة كانت على الأمم السالفة كلها، قلت: وعلى هذا لم تكن الصلاة من خصائص هذه الأمة، وفيه: أن صلاتهم كانت بركوع دون سجود، فالسُّجود من خصائص هذه الأمة، كما حقَّقه شيخ مشايخنا الفاضل الرحمتي في «حواشي الدر المختار»، قلت: والجمهور على أنَّه السُّجود؛ لأنَّ الركوع كان في شريعة موسى عليه السَّلام، ومما اختص به نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم مجموع الصلوات الخمس، ولم تجتمع لأحد من الأنبياء غيره، فإنَّ الأمم السالفة كانت تصلي عند الطلوع وعند الغروب فقط، وتمامه في «شرحنا على القدوري»، ({عَلَى المُؤْمِنِينَ})؛ أي: مفروضة على جميع المكلفين، فهي فرض عين على كلِّ مكلَّف بعينه، وهو المسلم البالغ العاقل ذكرًا كان أو أنثى حرًا كان أو عبدًا، وفيه: دليل على أنَّ الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وفيه خلاف، فعند الإمام الأعظم رضي الله عنه: هم مخاطبون بها، وهو قول مالك وأكثر أصحابه، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن غير مخاطبين، وبه قال الشَّافعي، ({كِتَابًا}) : مصدر بمعنى المفعول؛ أي: مكتوبًا مفروضًا، ({مَوْقُوتًا}) [النساء: ١٠٣]؛ أي: موجبًا مفروضًا، قاله ابن عبَّاس، ووافقه مجاهد وغيره، فـ {مَوْقُوتًا} تأكيد لـ {كِتَابًا}، وقيل: معناه: محدودًا، كما سيأتي، يعني: أن الصلاة فريضة من الله مفروضة لأوقات معلومة، كلما مضى وقت واحدة؛ جاء وقت واحدة أخرى، ليست كالصوم الذي هو مفروض في السنة مرة واحدة، والحج الذي هو مفروض العمر مرة واحدة، وذلك لتأكُّدها وجلالة أمرها، ولهذا كانت فارقة بين المسلم والكافر.

وثبوتها: بالكتاب، والسنة، والإجماع، فيكفر جاحدها، وتاركها عمدًا تكاسلًا فاسق؛ يحبس حتى يصلي؛ لأنَّه يحبس لحقِّ العبد، فحقُّ الحقِّ أحقُّ، لا يقال: إنَّ حقَّه تعالى مبنيٌّ على المسامحة؛ لأنَّا نقول: لا تسامح في شيء من أركان الإسلام، وقال الإمام المحبوبي: لو تركها تكاسلًا؛ يضرب حتى يسيل منه الدم، وهو ظاهر المذهب، وكذا الذي يفطر في رمضان يُحبَس حتى يُحدِثَ توبة، هذا مذهب الإمام الأعظم والجمهور، وقال مالك والشَّافعي وأحمد: إذا أقرَّ بها، وتركها تكاسلًا؛ يقتل، قيل: حدًّا، وقيل: كفرًا، وقد نظم ذلك بعض الأفاضل فقال وأجاد:

في حكم من ترك الصلاة وحكمه... إن لم يقر بها كحكم الكافر

فإذا أقر بها وجانب فعلها... فالحكم فيه للحسام الباتر

وبه يقول مالك والشَّافعي... والحنبلي تمسُّكًا بالظَّاهر

وأبو حنيفة لا يقول بقتله... ويقول بالحبس الشديد الزاجر

المسلمون دماؤهم معصومة... حتى تراق بمستنيرٍ باهر

مثل الزنى والقتل في شرطيهما... وانظر إلى ذاك الحديث الساخر

هذي مقالات الأئمة كلهم... وأصحها ما قلته (٢) في الآخر

أي: وهو قول الإمام الأعظم إمام الأئمة ورأس المجتهدين.

والحسام: السيف، فإنَّ دم المسلم معصوم، ولا يخرجه من الإسلام إلا جحود ما أدخله فيه، ولم يوجد دليل على جواز قتل المسلم التَّارك لها تكاسلًا لا من الكتاب ولا السنة غير أنَّ فيهما التأكيد على الفرضية؛ فافهم.

وروى القاضي إسماعيل في «أحكامه» في هذه الآية من طريق حمران عن عثمان مرفوعًا: «من علم أن الصلاة عليه حقًّا يقينًا مكتوبًا؛ دخل الجنة»، فهذا يدل على أنَّه يدخل الجنة بمجرد علمه بذلك وإن تركها تكاسلًا.

ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها الشرعي بغير عذرٍ شرعيٍّ أصلًا في أيِّ حالٍ كان، ولو كان في حال الخوف، ووجود العدو، والتحام الحرب، فليس ذلك بعذر، ولهذا شرعت صلاة الخوف، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد بن الحسن، وكافَّة أصحابه، ومن يقول بقوله، وهو مذهب العلماء كافَّة، كما هو مسطور في كتب المذهب المعظَّم.

وزعم العجلوني أن عند الإمام أبي يوسف يجوز تأخير الصلاة عن وقتها عند التحام الحرب، فيصليها قضاءً عند الاطمئنان، انتهى.

قلت: وما زعمه فاسد الاعتبار يجب الإعراض عنه، فإن الإمام أبا يوسف لا يقول بذلك أصلًا، ولم ينقل أحد من علماء المذهب عنه ذلك أصلًا، غير أنَّ الإمام فخر الدين الزيلعي في «شرحه على الكنز» ذكر عنه روايتين في صلاة الخوف، هل هي مشروعة في زماننا أم خاصَّة في زمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؟ فروي عنه: أنها مشروعة في زماننا وهي المشهورة عنه، وفي رواية أخرى: أنها ليست بمشروعة في زماننا، وهي رواية شاذة، واستدل لها بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} [النساء: ١٠٢] فهو خطاب للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على الخصوص، والمعنى: أنهم يتحرون الصلاة خلفه عليه السَّلام، وزال ذلك حين قبض عليه السَّلام، فانتسخ، ولم يذكر هذه الرواية غيره، فهي شاذة، وعليها فإنَّه لا يقول بترك الصلاة، بل يؤدُّون الصلاة ركبانًا فرادى بالإيماء أو رجالًا واقفين إلى أيِّ جهة قَدرُوا؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: ٢٣٩]، على أنَّ قوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: ١٠٣] يدلُّ على أنَّ حالة الخوف لا تصحُّ الصلاة.

هذا وقد ترك النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أربع صلوات في غزوة الأحزاب، وقال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله قبورهم نارًا»، كما ثبت ذلك في «الصَّحيحين»، والله تعالى أعلم، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في محلِّه، فما زعمه باطل.

وكذا ما زعمه البيضاوي من نسبة ذلك للإمام الأعظم؛ خطأ ظاهر يجب الإعراض عنه، فإنَّ هذه مجازفة وبهتان عظيم على إمام أئمة المسلمين ورأس المجتهدين رضي الله تعالى عنه.

ثم إنَّ البخاري فسَّر قوله تعالى: {مَوْقُوتًا} بقوله: (وقَّته عليهم)؛ أي: وقَّت الله الكتاب-أي: المكتوب- الذي هو الصلاة عليهم؛ أي: على المسلمين، وليس هذا بإضمار قبل الذكر؛ لوجود القرينة، ووقع في أكثر الروايات: (موقوتًا موقَّتًا وقَّته عليهم)، وليس في بعض النُّسخ لفظ (موقَّتًا)؛ يعني: بالتشديد.

واستشكل ابن التين تشديد القاف من (وقَّته) وقال: المعروف في اللُّغة التخفيف.

قلت: ليس فيه إشكال؛ لأنَّه قد جاء في اللُّغة: (وقَّته)؛ بالتشديد، و (وقَته)؛ بالتخفيف، فكأنَّه ما اطلع على ما في «المحكم» وغيره، كذا قرره إمامنا الشَّارح، لا يقال: مراد ابن التين: أن التخفيف هو المشهور لغة، والتشديد قليل، لأنا نقول: إنَّه خلاف المفهوم من كلامه، على أنَّه غير مسلَّم له قلَّة التشديد؛ لذكرهما في كتب اللُّغة كثيرًا على السواء؛ فافهم.

وزعم ابن حجر أن قوله: (موقَّتًا) : بيان لقوله: {مَوْقُوتًا}.

وردَّه الشَّارح بأنَّ هذا كلام واهٍ، وليس في لفظ {مَوْقُوتًا} إيهام حتى يبيِّنه بقوله: (موقَّتًا)، وعن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {مَوْقُوتًا}؛ يعني: مفروضًا، وقيل: يعني: محدودًا، انتهى.

واعترضه العجلوني بأن {مَوْقُوتًا} جاء بمعنى: مفروضًا، وبمعنى: محدودًا، والمراد: الثاني؛ لئلا يتكرر مع {كِتَابًا}، وهذا اعتراض على البخاري أيضًا، انتهى.

قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ {مَوْقُوتًا}؛ معناه: مفروضًا عند الجمهور من المفسِّرين وغيرهم، وكونه جاء بمعنى محدودًا عند البعض -وهو شاذٌّ- لا يعتمد عليه؛ لأنَّه مخالف للجمهور من أهل التفسير واللُّغة وغيرهم، فلا يعتدُّ به، على أنَّه المراد: المفروض، لا كما زعمه؛ لأنَّه يكون تأكيدًا لـ {كتابًا}، والمقام يقتضي التأكيد والحث عليها، فناسب هذا المعنى بذلك، فلا يكون تكرارًا.

وأمَّا المحدود؛ فلا معنى له في ذلك، على أنَّه لم يذكر أحد من العلماء أنَّ المراد: المحدود، وهذا يتوجه على القائل به سواء كان البخاري أم غيره؛ فافهم.

ونقل ابن رجب عن الشَّافعي: أنَّ {مَوْقُوتًا} معناه: الوقت الذي تصلى فيه وعددها، انتهى.

قلت: بيان الأوقات لم يثبت بهذه الآية، ولم يتعرض أحد لهذا المعنى وهو غريب، وكذا قوله: (وعددها)، فمن أين ظهر العدد؟ ولهذا قال العجلوني: لعله أخذ العدد بِضَربٍ


(١) في الأصل: (هتاخ)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (قتله)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>