التصديق بالقلب، وإنَّما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا؛ لما أنَّ تصديق القلب أمر باطن لا بدَّ له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقرَّ بلسانه؛ فهو مؤمن عند الله وإن لم يكن مؤمنًا في أحكام الدنيا، ومن أقرَّ بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق؛ فبالعكس، وهذا اختيار الشيخ الإمام أبي منصور رضي الله تعالى عنه، والنصوص معاضدة لذلك؛ منها: قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: ٢٢]، وقوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤]، وتمامه في محله، وبهذا علم أن الإنسان إما مؤمن أو كافر، ولا واسطة بينهما عند أهل السنة، وأثبت المعتزلة واسطة، فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، والصحيح: أن المعتزلة فسقة؛ لأنَّهم على التوحيد، وبدعهم غير مكفرة بل مفسقة؛ فليحفظ.
وإذا وجد من العبد التصديق والإقرار؛ صح أن يقول: أنا مؤمن حقًّا؛ لتحقق الإيمان، ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ لأنَّه إن كان للشك؛ فهو كافر لا محالة، وإن كان للتأدب، أو للشك في العاقبة والمآل لا في الحال والآن، أو التبرك بذكره تعالى؛ فلا يضر، لكن الأولى تركه؛ لاحتمال توهم الشك، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين؛ فليحفظ.
(و) الإيمان (يزيد) بالطاعة (وينقص) بالمعصية، عند المؤلف، وهو مذهب محمد بن إدريس الشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم، واستدل المؤلف لهذا بثمان آيات؛ وكلها محمولة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهل هو مخلوق أم لا؟ قيل وقيل، والأحسن ما قاله الإمام أبو الليث السمرقندي الحنفي: إن الإيمان إقرار وهداية، فالإقرار صنع العبد؛ وهو مخلوق، والهداية صنع الرب؛ وهو غير مخلوق؛ فليحفظ.
(قال) وفي رواية: (وقال) (الله تعالى) بالواو في سورة (الفتح)، وفي رواية: (عز وجل) : ({لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}) [الفتح: ٤]، وقال في (الكهف) : ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}) [الكهف: ١٣]؛ بالتوفيق، وهذه الآية ساقطة في رواية، وفي (مريم) : (٧٦) قوله: ({وَيَزِيدُ اللهُ}) وفي روايةبالواو، وفي أخرى: (وقال: {ويزيد الله}) ({الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}) بالتوفيق.
(وقال) في القتال، وفي رواية: (وقوله)، وفي أخرى: بإسقاطهما والابتداء بقوله: ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}) بالتوفيق ({وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}) [محمد: ١٧]؛ أي: بيَّن لهم ما يتقون، وقال في (المدثر) : ({وَيَزْدَادَ}) وفي رواية: (وقوله: {ويزداد}) ({الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}) [المدثر: ٣١]؛ بتصديقهم أصحاب النار المذكورين بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} ... الآية [المدثر: ٣١]، (وقوله) تعالى في (براءة) : ({أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ}) أي: السورة ({إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}) [براءة: ١٢٤]؛ بالعلم الحاصل بتدبرها (وقوله جل ذكره) في آل عمران: ({فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}) [آل عمران: ١٧٣]؛ لعدمِ التفاتِهم إلى من ثبَّطهم عن قتال المشركين، بل ثبت يقينهم بالله تعالى، (وقوله تعالى) في الأحزاب: ({وَمَا زَادَهُمْ})؛ أي: لما رأوا البلاء ({إِلَّا إِيمَانًا}) بالله ورسوله ({وَتَسْلِيمًا}) [الأحزاب: ٢٢] لأوامره.
فاستدل المؤلف ومن وافقه بهذه الآيات على أن الإيمان يزيد وينقص، وقال رئيس المجتهدين الإمام الأعظم وإمام الأئمة المعظم أبو حنيفة، وأصحابه؛ الإمام أبو يوسف، والإمام محمد، والإمام زفر، والإمام الحسن، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين: إنَّ حقيقة الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لما مر أنَّه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان؛ وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق، فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي؛ فتصديقه باق على حاله لا تغير فيه أصلًا، وهذه الآيات السابقة التي ظاهرها يدل على زيادة الإيمان؛ محمولة على ما قاله إمامنا الإمام الأعظم: إنهم كانوا آمنوا بالجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص.
وحاصله: أنه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به؛ وهذا لا يتصور في غير عصر النبي الأعظم عليه السلام، وبهذا قال جمهور المتكلمين وكذا المحققون، وقيل: المراد بالزيادة: ثمرته، وإشراق نوره، وضياؤه في القلب؛ فإنَّه يزيد بالأعمال وينقص بالمعاصي باعتبار جهات هي غير ذات التصديق؛ بل بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات يتفاوت المؤمنون عندنا.
ولهذا قال إمامنا الإمام الأعظم: (إيماني كإيمان جبريل لا مثل إيمانه)؛ لأنَّ المثليَّة تقتضي المساواة في كل الصفات، والشبيه لا يقتضيه، فلا أحد يسوِّي بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء من كل وجه بل يتفاوت، غير أن ذلك التفاوت هل هو بزيادة ونقص في نفس ذات التصديق، أو هو يتفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات، بل بأمور زائدة عليها؟ فنحن معاشر الحنفية ومن وافقنا نمنع التفاوت في نفس ذات التصديق، ونقول: إنَّ ما يتخايل من أنَّ القطع يتفاوت قوة إنَّما هو راجع إلى ظهوره وانكشافه، فإذا ظهر القطع بحدوث العالم بعد ترتب مقدماته؛ كان الجزم الكائن فيه كالجزم في حكمنا: الواحد نصف الاثنين، وإنما تفاوتهما باعتبار أنه إذا لوحظ هذا خصوصًا مع عزوب النظر؛ فيخيل أن الجزم أولى وليس بقوي في ذاته، إنَّما هو أجلى عند العقل، فنحن معاشر الحنفية ومن وافقنا نمنع ثبوت ماهية المشكك، ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه، فيكون التفاوت عارضًا لها خارجًا عنها، لا ماهية لها ولا جزء ماهية؛ لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها، وحاصله: أن الخلاف باق، وقد قال بذلك جمهور المتكلمين وبعض الأشاعرة منهم؛ إمام الحرمين وغيره من المحققين، والله تعالى أعلم.
ثم استدل أيضًا بقوله: (والحب في الله) مبتدأ (والبغض في الله) عطف عليه وقوله: (من الإيمان) خبر، وهذا لفظ حديث رواه أبو داود من حديث أبي أمامة، فإن الحب والبغض يتفاوتان؛ باعتبار ما يعرض عليهما من الجهات الخارجة.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) بن مروان، الأموي، أحد الخلفاء الراشدين، المتوفى في خامس وعشرين رجب، سنة إحدى ومئة، قيل: بدير سمعان بحمص، وقيل: بدمشق في القنوات، (إلى عَدِي بن عَدِي)؛ بفتح العين وكسر الدال المهملتين فيهما: ابن عَمرة بفتح العين، الكندي، التابعي، المتوفى سنة عشرين ومئة: (إن للإيمان)؛ بكسر الهمزة (فرائضَ)؛ بالنصب اسم (إن) مؤخر؛ أي: أعمالًا مفروضة (وشرائع)؛ أي: عقائد (وحدودًا)؛ أي: منهيات، (وسننًا)؛ أي: مندوبات، وفي رواية: (إن الإيمان فرائضُ) بالرفع خبر (إن)، وما بعده معطوف عليه، وفي رواية: (فرائع)؛ بالفاء في أوله والعين المهملة في آخره؛ وهو بمعنى: فرائض؛ فافهم.
(فمن استكملها)؛ أي: الفرائض وما معها؛ فقد (استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها؛ لم يستكمل الإيمان)؛ وهذا لا يدل على ما استدل له؛ بل فيه دلالة على عدم قبول الإيمان الزيادة والنقصان؛ لأنَّه جعل الإيمان غير الفرائض وما بعدها، فإن قوله: (إن للإيمان فرائض...) إلخ؛ مثل قولك: (إن لزيد عمامة وجبة وإنبازًا)، وجعل أيضًا الكمالَ كمالَ الإيمان لا للإيمان، والمعنى: من استكملها بأن أتى بها على وجهها؛ فقد استكمل الإيمان، بأن وجد حلاوته وأشرق نوره عليه، ومن لم يستكملها؛ لم يجد ذلك فصار كالشجرة بلا ثمر، وهذا آخر كلامه مشعر بذلك؛ فليحفظ.
(فإن أعش) لم أذق الموت؛ (فسأبينها)؛ أي: أوضحها (لكم)، والمراد: تفاريعها لا أصولها؛ لأنَّها معلومة لهم إجمالًا، وأراد بيانها تفصيلًا (حتى تعملوا بها، وإن أمت؛ فما أنا على صحبتكم بحريص) وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنَّ الحاجة لم تتحقق، أو أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها، ولكنه استظهر في نصحهم، وعرفهم أقسام الإيمان مجملًا، وأنه سيذكرها لهم مفصلًا إذا تفرغ لهم، فقد كان مشغولًا بالأهم، وهذا من تعاليق المؤلف المجزومة؛ وهي محكوم بصحتها، ووصله أحمد وابن أبي شيبة في كتاب «الإيمان» لهما من طريق عيسى بن عاصم.
(وقال إبراهيم) الخليل، وفي رواية: (صلى الله عليه وسلم) وقد عاش مئة وخمسًا وسبعين سنة، أو مئتين، ودفن بحبرون؛ بالحاء المهملة؛ كذا قيل: ({وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}) [البقرة: ٢٦٠]؛ أي: يسكن قلبه عن المنازعة إلى رؤية الكيفية المطلوب رؤيتها، أو المطلوب سكونه بحصول متمناه من المشاهدة المحصلة للعلم البديهي بعد العلم النظري، وهذا قطع منه بالقدرة على إحياء الموتى كمن قطع بوجود دمشق وما فيها من أجنة ذات ثمار وانهار جارية، فنازعته نفسه في رؤيتيها، فإنَّها لا تسكن وتطمئن، حتى يحصل مناها، وكذا شأنها في كل مطلوب لها مع العلم بوجوده، فليس تلك المنازعة والتطلب ليحصل القطع بوجود دمشق؛ إذ الغرض ثبوته، فهذا لا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا أَخَّرَ هذه الآية عن الآيات السابقة؛ فليحفظ.
(وقال مُعاذُ)؛ بضم الميم والذال المعجمة، وفي رواية: (وقال معاذ بن جبل)؛ هو ابن عمرو الخزرجي الأنصاري، المتوفى سنة ثمانية عشر للأسود بن هلال: (اجلس بنا) بهمزة وصل (نؤمنْ) بالجزم (ساعة)؛ أي: حصة من الزمان؛ أي: نتذاكر الخير، وأحكام الآخرة، وأمور الدين؛ فإن ذلك من الإيمان؛ أي: من فروعه ولا دلالة فيه على قبول الزيادة، كما لا يخفى؛ فليحفظ، وهذا التعليق وصله أحمد وابن أبي شيبة كالأول للأسود بن هلال.
(وقال ابن مسعود) عبد الله، وجده غافل؛ بالمعجمة والفاء: الهذلي؛ نسبة إلى جده هذيل بن مدركة، المتوفى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين: (اليقين الإيمان كله)؛ أي: التصديق القلبي هو نفس ذات الإيمان، وإنما أكده بـ (كل) الدالة على التبعيض؛ باعتبار فروع الإيمان، وهذا التعليق طرف من أثر رواه الطبراني، وتتمته: (والصبر نصف الإيمان)؛ أي: ثواب الصبر على المشقة يعدل ثواب نصف الثواب الحاصل من الإيمان، فلا دلالة فيه أيضًا على التجزئة؛ كما قيل؛ فليحفظ؛ فافهم.
(وقال ابن عمر) عبد الله