للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من الراوي، والمراد بالعصا: عود صغير طول ذراع فأكثر في غلظ الإبهام فأكثر، وإنَّما قلنا هذا؛ ليحصل الفرق [بين] العصا والعكازة؛ لأنها وإن كان الغالب فيها زج حديد إلا أنَّها تكون بدونه، وهي يعتمد عليها في المشي والقيام ونحوهما، بخلاف العصا، فإنَّه لا يعتمد عليها؛ لعدم قوتها فتنكسر؛ فافهم، (أو عَنَزة)؛ بفتح العين المهملة والنُّون والزاي رواية الأكثرين، ففيه المطابقة للتَّرجمة، قال إمام الشَّارحين: (وفي رواية المستملي والحموي: «أو غَيْره»؛ بالغين المعجمة، وسكون التحتية، وبالرَّاء المهملة، فإن صح هذا؛ فليس فيه ما يطابق التَّرجمة، والضمير فيه يرجع إلى غير العكازة والعصا؛ والتقدير: أو غير كل واحد منهما) انتهى.

وزعم ابن حجر أنَّ هذه الرواية تصحيف.

وردَّه الشَّارح، فقال: (كيف يكون تصحيفًا وهي رواية المستملي والحموي، فكأنَّ هذا القائل ارتكب هذا؛ لئلا يقال: إنَّ الحديث لا يطابق التَّرجمة) انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ القاضي عياض قال: (الصَّواب: الرواية الأولى؛ لموافقتها للأمهات)، قال: (وبه يندفع الاعتراض، وقد يقال: إنَّ المطابقة حاصلة على هذه الرواية أيضًا؛ لأنَّ «أو غيره»؛ -أي: غير المذكور من العصا والعكازة- يشمل العنزة، أو هي في معنى أحد المذكورات) انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه، وقول القاضي: (الصَّواب...) إلخ: لا يدفع هذا الاعتراض؛ لأنَّ فيه تسليم الرواية الثانية غاية ما فيه ترجيح الرواية الأولى، وهو غير دافع، على أنَّ المقرر عند المحدثين: أنَّ المستملي أحفظ الرواة، فكيف يقال فيه أنَّه مصحف مع رواية الحموي مثله؟ فالقول بأنَّهما تصحفا الرواية قول صادر من غير تأمل، ولا يعول عليه، ويجب اجتنابه.

وقوله: (وقد يقال...) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه على ما زعمه، وإن كان يشمل العنزة على بُعْدٍ، لكنه غير مذكور في الحديث، وعليه فلا يطابق التَّرجمة، كما لا يخفى على أنَّه أتى بالعكازة والعصا بالتنكير، وهو يدل على الجنس، فيكون قوله: (أو غيره) على الرواية الثانية؛ أي: غير المذكور من جنس العصا والعكاز، وهو لا يشمل العنزة، فلا يطابق.

وقوله: (أو هي...) إلخ: ممنوع أيضًا؛ لأنَّ كونها في معنى المذكورات هي العصا والعكاز نفسهما غير أنَّه يحتمل التخالف في أنواع الشجر؛ كالعود من الرمان، أو الزيتون، أو النخل، أو نحوها، وعليه فلا مطابقة للتَّرجمة أيضًا، وهذا صريح في تسليمه عدم المطابقة، وعلى كل حال العنزة على الرواية الثانية غير مذكورة قطعًا، فلا مطابقة فيه للتَّرجمة؛ فافهم.

(ومعنا إِدَاوة)؛ بكسر الهمزة، وتخفيف الدَّال المهملة: إناء صغير من جلد؛ كالسطيحة مملوءة ماء، والجملة حالية أو مستأنفة (فإذا فرغ) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (من حاجته)؛ أي: البول والغائط؛ أي: قضائها؛ (ناولناه الإِداوة)؛ أي: ليتوضأ بالماء الذي فيها بعد استنجائه بالأحجار، ويحتمل أنَّه ليستنجي بالماء، والظَّاهر: الأول؛ لأنَّه عليه السَّلام من عادته الدوام على الوضوء؛ لمناجاة ربه، فلا يمكث على غير طهارة، وبقضاء حاجته انتقضت طهارته؛ فلذا أخذ الإداوة لأجل الوضوء، كما لا يخفى، واستظهر العجلوني تبعًا لابن الملقن الثاني تعصبًا، قال: (لأنَّ العادة في الوضوء الصب على اليد) انتهى.

قلت: هذا ممنوع؛ لأنَّ عادته عليه السَّلام أخذ الإداوة بيده، ويصب على الأخرى، فيجمع الماء فيها ويتوضأ، وهذه عادة شائعة عند الخاص والعام، وكون العادة في الوضوء الصب؛ ممنوع؛ لأنَّه فعل المترفهين المتكبرين لا يليق بالمتعبدين، والنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، ويدل عليه الحديث المرفوع: «أنا لا أستعين في وضوء بأحد»، قاله عليه السَّلام لعمر بن الخطاب وقد بادر لصب الماء عليه؛ فافهم.

وقال ابن بطال: (فيه الاستنجاء بالماء).

وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ هذا ليس بصريح؛ لأنَّ قوله: «فإذا فرغ من حاجته» يشمل الاستنجاء بالحجر، ويكون مناولة الماء لأجل الوضوء) انتهى.

قلت: وهذا هو الظَّاهر، كما قدمناه.

واعترضه العجلوني بأنَّه غير وارد؛ لأنَّه لم يدَّعِ الصراحة، انتهى.

قلت: ممنوع، بل هو وارد؛ لأنَّ اللَّفظ أعم شامل لكل منهما، وإن كان الظَّاهر الوضوء، وابن بطال لما جزم بقوله: (وفيه...) إلخ؛ دل هذا على دعواه الصراحة، على أنَّ إمامنا الشَّارح مراده أنَّ لفظ الحديث أعم، واقتصاره عليه دليل على أنَّه مدعي الصراحة؛ فافهم، ولا تغتر بكلام العجلوني، فإنَّه رأس المتعصبين؛ فاجتنبه.

وقال ابن بطال: (فيه: خدمة السلطان والعالم).

واعترضه الشَّارح، فقال: (حصره في الاثنين لا وجه له، والأحسن أن يقال: فيه خدمة الكبير) انتهى.

قال العجلوني: (تأمل قوله: «والأحسن» مع قوله: «لا وجه له») انتهى.

قلت: هذا القائل لم يقف على معاني الكلام، فإنَّ معنى قوله: (الأحسن...) إلخ؛ أي: الحسن والصَّواب، و (أفعل) التفضيل ليس على بابه، وليس في كلام ابن بطال حسن أصلًا؛ لأنَّه قاصر، والتعبير بالكبير هو الصَّواب؛ لأنَّه أعم وأشمل، وانظر تقديم السلطان على العالم، فإنَّ فيه سوء الأدب بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وهم الحكام على السلاطين والأمراء، كما لا يخفى.

وفي الحديث: استحباب اتخاذ العنزة ونحوها مع قاضي الحاجة؛ لأجل أن ينبش بها الأرض الصلبة؛ لئلا يعود عليه شيء من الرشاش، ولأجل أن يركزها المصلي أمامه يستتر بها عن المارين كما فعله عليه السَّلام.

ومذهب الإمام الأعظم رئيس الأئمة المجتهدين: يستحب للمصلي أن يغرز سترة؛ لما تقدم من الأحاديث، وتكون طول ذراع فصاعدًا؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «يجزئ من السترة قدر مؤخر الرحل، ولو بِدِقَّةِ شعر»، رواه الحاكم على شرط الشيخين، وتكون في غلظ الإصبع؛ لأنَّه أدنى ما يظهر للناظر، والمقصود أن يظهر للمارين، وفي أقل من ذلكلا يحصل، وقوله عليه السَّلام: «ولو بدقة شعر» خرج مخرج النادر على سبيل المبالغة في وضع السترة، يدل عليه حديث: «ليستتر أحدكم ولو بسهم»، فإن لم يجد ما ينصبه؛ فليَخُطَّ خطًّا بالعرض مثل الهلال؛ لما في السنن مرفوعًا: «إن لم يكن معه عصا؛ فليخط خطًّا»، وقيل: يخط مدور كالمحراب، كما في «شرح النقاية» للقهستاني و «الإمداد»، ومثله في «شرح المشكاة» لإمام المحدثين المنلا القاري.

وقال ابن بطال: (وقال مالك: أقل ما يجزئ المصلي من السترة غلظ الرمح والعصا وارتفاع ذلك قَدْر عظم الذراع، ولا يجيز الخط غير الشَّافعي) انتهى.

قلت: وحصره ممنوع، فإنَّ إمامنا الأعظم يقول به

<<  <   >  >>