للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كما في «الترمذي».

(فكان) بالفاء للأصيلي، ولأبوي ذر والوقت: بالواو؛ أي: النبي عليه السلام، (لا يرى رؤيا) بدون تنوين، وروي به، (إلا جاءت) وقعت (مثل)؛ بالنصب بمصدر محذوف؛ أي: إلا جاءت مجيئًا مثل (فلق الصبح)؛ كرؤياه دخول المسجد الحرام، والمعنى: أنها شبيهة له في الضياء والوضوح، وعبر بـ (فلق الصبح)؛ لأنَّ مبادئ النبوة الرؤيا، والفلق: الصبح، وهل أوحي إليه شيء من القرآن في النوم أم لا؟ والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وإنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا؛ لئلا يفاجئه الملك.

(ثم حبب إليه الخلاء) بالمد؛ مصدر بمعنى الخلوة؛ أي: الاختلاء؛ بالرفع، نائب فاعل، وفيه تنبيه على فضل العزلة؛ لأنَّها تريح القلب من الاشتغال بالدنيا والتفرغ لعبادة الله تعالى، (وكان) عليه السلام (يخلو بغار حِراء)؛ بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، والأصيلي: فتحها والقصر، وهو مصروفِ إنْ أريد المكان، وممنوع منه إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير، والتأنيث، والمد، والقصر، وحراء: جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، والغار نقب فيه؛ وهو الكهف.

(فيتحنث فيه)؛ بالحاء المهملة وآخره مثلثة؛ أي: يتبع دين إبراهيم؛ (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن تغليبًا، و (الليالي) : نصب على الظرفية، وأقل الخلوة: ثلاثة أيام، ثم سبعة، ثم شهر؛ لما عند المؤلف: جاورت بحراء شهرًا، وعند أبي إسحاق: أنه شهر رمضان، وما قيل: إنه أكثر فلم يصح، والخلوة: أمر مرتب على الوحي، وإنما خص حراء بالتعبد؛ لأنَّه له فضلٌ (١)؛ من حيث إنه ينظر منه الكعبة، والنظر إليها عبادة، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، وقيل: بالتفكر، والله أعلم.

(قبل أن يَنزِع)؛ بفتح أوله وكسر الزاي؛ أي: يشتاق ويرجع (إلى أهله) عياله (ويتزود لذلك)؛ برفع الدال؛ أي: يتخذ الزاد للخلوة، (ثم يرجع إلى خديجة) رضي الله عنها (فيتزود لمثلها)؛ أي: لمثل الليالي، وخص خديجة؛ لأنَّه كان يتزود من عندها دون غيرها، وفيه: أن الانقطاع عن الأهل ليس من السنة؛ أي: بالكلية.

(حتى جاءه) الأمر (الحق) الوحي (وهو في غار حراء، فجاءه الملك) جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة من رمضان، وهو ابن أربعين سنة؛ كما رواه ابن سعد، (فقال) له: (اقرأ) ما أتلوه عليك، (قال) عليه السلام، ولأبوي ذر والوقت: (قلت) : (ما أنا بقارئ)، وفي رواية: (ما أحسن أن أقرأ)، و (ما) : استفهامية على التحقيق؛ فإنَّ الأخفش جوَّز دخول الباء في خبرها، والدليل على أنَّها استفهامية الرواية الأخرى عن أبي الأسود في (المغازي) : (قال: كيف اقرأ؟)، وقيل: إنَّ (ما) نافية، واسمها (أنا)، وخبرها (بقارئ).

(قال) عليه السلام: (فأخذني) جبريل (فغطني)؛ بالغين المعجمة ثم المهملة؛ أي: ضمَّني وعصرني، وفي رواية: (فغتني)؛ بالمثناة الفوقانية؛ أي: حبسني، (حتى بلغ مني الجَهدَ)؛ بفتح الجيم ونصب الدال؛ أي: غاية الوسع، مفعولٌ حُذف فاعله، وروي: بضم الدال والرفع؛ أي: بلغ مني الجهد مبلغه، فهو فاعل (بلغ)، وهي الأوجه، (ثم أرسلني)؛ أي: أطلقني.

(فقال: اقرأ، قلت) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: (فقلت) : (ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية)؛ أي: مرة ثانية، (حتى بلغ مني الجهد)؛ بالفتح والنصب، والضم والرفع؛ كما مر، (ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة)؛ أي: المرة الثالثة، وهذا من خصائصه عليه السلام، واستدل به: على أن المؤدب لا يضرب صبيًا أكثر من ثلاث ضربات.

(ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ})؛ أي: بكلام ربك الذي أتلوه عليك، ({الَّذِي خَلَقَ}) [العلق: ١]؛ أي: الذي له الخلق، أو الذي خلق كل شيء، ولا دلالة فيه للشافعي على وجوب قراءة التسمية في ابتداء كل قراءة؛ لأنَّ المراد المقروء؛ وهو كلام الله تعالى، وعن علي: (أن أول ما نزل من القرآن: ({قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: ١٥١])، والجمهور: أن أول ما نزل منه هذه الآيات؛ فليحفظ.

({خَلَقَ الإِنسَانَ}) : خصه بالذكر؛ لشرفه، ({مِنْ عَلَقٍ}) [العلق: ٢]؛ بتحريك اللام: الدم الغليظ، والقطعة منه علقة، ({اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}) [العلق: ٣]؛ الزائد في الكرم على كل كريم، (فرجع بها)؛ أي: بالآيات (رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى أهله، والظاهر أن (رجع) مخفف؛ أي: أنَّه بمجرد سماعها وقراءتها حفظها، ويحتمل أنه مشدد؛ أي: صار يكررها حتى حفظها، فسار إلى أهله حال كونه (يرجُف)؛ بضم الجيم: يخفق ويضطرب، (فؤادُه) : قلبه وحواسه؛ لما ظهر له من الأمر الخارق للعادة، (فدخل) عليه السلام (على خديجة بنت خويلد) (٢)؛ أم المؤمنين رضي الله عنها، فأعلمها بما وقع له، (فقال) عليه السلام: (زمِّلوني زمِّلوني)؛ بكسر الميم مع التكرار مرتين: من التزميل؛ وهو التلفف، (فزمَّلوه)؛ بفتح الميم، (حتى ذهب عنه الرَّوع)؛ بفتح الراء؛ أي: الخوف.

(فقال) عليه السلام (لخديجة) رضي الله عنها (وأخبرها الخبر)؛ جملة حالية: (لقد)؛ أي: والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الخوف أو المرض، (فقالت له) عليه السلام (خديجة) رضي الله عنها، ولأبي ذر: (قالت)؛ بإسقاط الفاء: (كلا) نفي وإبعاد؛ أي: لا تقل ذلك، (والله ما يُخْزِيْك الله أبدًا)؛ بضم المثناة التحتية، وبالخاء المعجمة الساكنة، والزاي المكسورة، وبالمثناة التحتية الساكنة: من الخزي؛ أي: ما يفضحك الله، ولأبي ذر عن الكشميهني: (ما يَحزنك الله)؛ بفتح أوله وبالحاء المهملة وبالنون: من الحزن؛ ضد الفرح.

(إِنك)؛ بكسر الهمزة؛ أي: المتصف بمكارم الأخلاق، (لتصل الرحم)؛ أي: القرابة، (وتحمل الكَلِّ)؛ بفتح الكاف وتشديد اللام: الثِّقْل؛ بكسر المثلثة وإسكان القاف؛ أي: تدفعه عن الضعيف والمنقطع، (وتَكسب المعدوم)؛ بفتح المثناة الفوقية؛ أي: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، و (كسب) : يتعدى لواحد واثنين، ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني: (وتكسب)؛ بضم أوله من (أكسب)؛ أي: تكسب غيرك المال المعدوم، و (المعدوم) : الرجل الفقير، وإنَّما سماه معدومًا؛ لكونه كالميت؛ من حيث العجز، والعديم: الذي لا عقل له.

(وتَقري الضيف) بفتح أوله بلا همز؛ ثلاثيًا، وسمع بضمها؛ رباعيًا؛ أي: تهيئ له طعامًا، (وتعين على نوائب الحق)؛ أي: حوادثه، وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأنَّها تكون في الحق والباطل، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وحسن رأيها.

(فانطلقت)؛ أي: مضت (به خديجة) رضي الله عنها؛ مصاحبة له، (حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة)؛ بنصب (ابن) الأخير بدلًا من (ورقة) أو صفة، ولا يجوز جره؛ لأنَّه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، وتكتب بالألف ولا تحذف؛ لعدم وقوعه بين علمين، وراء (ورَقة) مفتوحة، وتجتمع معه خديجة في أسد؛ لأنَّها بنت خويلد بن أسد.

(وكان) ورقة امرأ (قد) ترك عبادة الأوثان، و (تنصر)، وللأربعة: (وكان امرأ تنصر) (في الجاهلية)؛ بإسقاط (قد)، فإنَّه خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأَعجب ورقة النصرانية للُقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه السلام، (وكان) ورقة (يكتب الكتاب العبراني)؛ أي: الكتابة العبرانية، وفي رواية: (الكتاب العربي).

(فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب)؛ أي الذي شاء الله كتابته، و (العبراني)؛ بكسر العين: نسبة إلى (العِبْر)؛ بكسر العين وإسكان الموحدة، وزيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سميت بذلك؛ لأنَّ إبراهيم تكلم بها لما عبر الفرات فارًا من نمرود، وقيل: إن التوراة عبرانية، والإنجيل سريانية، وقيل: ما نزل من السماء وحي إلَّا عربي، وكانت الأنبياء تترجمه لقومها.

(وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) حال كونه (قد عمي، فقالت له خديجة) رضي الله عنها؛ (يا بن العم؛ اسمع)؛ بهمزة وصل (من ابن أخيك)؛ تعني: النبي عليه السلام؛ لأنَّ الأب الثالث لورقة؛ هو الأخ للأب الرابع لمحمد عليه السلام.

(فقال له) عليه السلام: (ورقة يا بن أخي: ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما)، وللأصيلي وأبي ذر: (بخبر ما) (رأى فقال له ورقة: هذا الناموس)؛ بالنون والسين المهملة: وهو صاحب السر الوحي، والمراد به جبريل (الذي نزل الله على موسى)، زاد الأصيلي: (صلى الله عليه وسلم)، و (نزل)؛ بحذف الهمزة.

وإنَّما خصَّ موسى مع كون ورقة نصرانيًّا؛ لأنَّ توراة موسى مشتمل على الأحكام، بخلاف الإنجيل؛ لأنَّه مشتمل على المواعظ، ولأنَّ نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين، بخلاف عيسى؛ فإنَّ اليهود ينكرون نبوته.

وفي رواية عيسى: (يا ليتني فيها)؛ أي: في مدة النبوة أو الدعوى، (جَذَعًا)؛ بفتح الجيم والمعجمة وبالنصب: خبر كان مقدرة، أو على الحال من ضمير خبر ليت المقدر، وللأصيلي وأبي ذر: (جذع)؛ بالرفع: خبر ليت، والجذع: هو الصغير من البهائم، ثم استعير للإنسان؛ أي: شابًّا قويًّا، (ليتني)، وللأصيلي: (يا ليتني)، (أكون حيًّا) عند ظهور نبوتك.

(إذ يخرجك قومك) من مكة، وفي رواية: (حين يخرجك قومك)، وإنما تمنَّى ورقة عود الشباب مع أنه مستحيل؛ لأنَّ التمني في الخير جائز ولو كان مستحيلًا، أو أنَّ التمني ليس مقصودًا على بابه.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَ)؛ بفتح الواو (مخرجيَّ هم)؛ بتشديد الياء مفتوحة؛ لأنَّ أصله: مخرجوني، جمع: مخرج، من الإخراج، فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت، ثم أبدلت الضمة كسرة وفتحت ياء (مخرجي)؛ تخفيفًا، و (هم) : مبتدأ، خبره: (مخرجي) مقدمًا، ولا يجوز العكس؛ لأنَّه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة؛ لأنَّ الإضافة غير محضة بل لفظية.

(قال) ورقة: (نعم؛ لم يأت رجل قَطُّ)؛ بفتح القاف وتشديد المهملة مضمومة، وقد تكسر وقد تخفف، (بمثل ما جئت به) : من الوحي (إلا عودي)؛ لأنَّ الإخراج عن المألوف موجب لذلك، (وإن يدركْني)؛ بالجزم بأن الشرطية (يومُك)؛ بالرفع: فاعل (يدركني)؛ أي: يوم ظهور نبوتك؛ (أنصرْك)؛ بالجزم: جواب الشرط، (نصرًا) : بالنصب على المصدرية (مُؤزَّرًا)؛ بضم الميم، وفتح الزاي المشددة، آخره راء مهملة مهموزًا؛ أي: قويًّا بليغًا؛ وهو صفة لـ (نصر)، وفيه إشارة: إلى أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام؛ فيكون مثل بحيرا، وفي «المغازي» : أنه قال: أشهد أنك نبي مرسل.

وفي آخره: قال عليه السلام: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنَّه آمن بي وصدقني»، وأخرجه البيهقي، ففيه إشارة إلى ثبوت صحبته، وقد ذكره ابن منده في «الصحابة»؛ فتأمل.

(ثم لم يَنشب)؛ بفتح المثناة التحتية والمعجمة: أي: لم يلبث، (ورقةُ)؛ بالرفع: فاعل ينشب، (أن توفي)؛ بفتح الهمزة وتخفيف النون: وهو بدل اشتمال من (ورقة)؛ أي: لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت موته؛ قيل: بمكة، وقيل: قتل ببلاد لخم.

(وفتر الوحي)؛ أي: احتبس ثلاث سنين أو سنتين ونصف، وفي رواية: (حتى حزن عليه السلام حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال).

(قال ابن شهاب) الزهري: (وأخبرني) بالإفراد (أبو سَلَمة)؛ بفتحتين: عبد الله (بن عبد الرحمن) بن عوف المتوفى بالمدينة سنة أربع وتسعين، وأتى بالواو العاطفة؛ لبيان أنه مسند في (الأدب) و (التفسير) مع الإخبار عن عروة، وحينئذٍ؛ فهو من التعاليق حقيقة ومعنًى، كما ذكره الإمام الكرماني، وما قاله في «الفتح»، وتبعه القسطلاني؛ فقد ردَّه الإمام بدر الدين العيني بما يطول؛ فليحفظ: (أن جابر بن عبد الله) بن عمرو (الأنصاري)


(١) في الأصل: (فضلًا).
(٢) في حاشية الأصل: (هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أم المؤمنين، تزوجها عليه السلام وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي أم أولاده خلا إبراهيم فمن مارية، ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها، حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح.
قال آدم: مما فضل الله به ابني عليَّ أنْ زوجه خديجة كانت عونًا له على تبليغ أمر الله، وإن زوجتي كانت عونًا لي على المعصية، كذا قال الإمام بدر الدين العيني).

<<  <   >  >>