للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كان يصبغ بهما ثيابه حتى عمامته، وكان أكثر الصحابة والتابعين يخضب بالصفرة، منهم أبو هريرة وآخرون، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه، كذا في «عمدة القاري».

(ورأيتك إذا كنت بمكة؛ أهلَّ الناس)؛ من الإهلال: وهو رفع الصوت بالتلبية، وكل شيء ارتفع صوته؛ فقد استهل، يقال: أهلَّ بحجة أو عمرة، أو أحرم بها، وجرى على ألسنتهم؛ لأنَّهم أكثر ما كانوا يحجون إذا أهلَّ الهلال، وإهلال الهلال واستهلاله: رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته، واستهلال الصبي: تصويته عند ولادته، وأهلَّ الهلال؛ إذا طلع، وأهلَّ واستهلَّ؛ إذا أبصر، وأهللته؛ إذا أبصرته (إذا رأوا الهلال)؛ أي: هلال ذي الحجة، (ولم) : وللأصيلي: (فلم) (تهل أنت) : وكان القياس فيما ذكر في الأفعال الثلاثة السابقة أن يقول هنا: رأيتك لم تهل... إلخ.

وأجيب: بأنَّه محذوف، والمذكور دليل عليه، أو بأن الشرطية قائمة مقامه، كذا قاله الكرماني، واعترضه في «عمدة القاري» بأن هذا السؤال لا وجه له هنا، وما وجه القياس الذي ذكره؟! انتهى.

قال العجلوني: و (رأى) هنا وفيما مر من المواضع: بصرية أو علمية، وظاهر كلام «عمدة القاري» : أن (رأى) الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة بمعنى الإبصار فقط، وأمَّا (رأى) الخامسة (١)؛ فإنَّه يحتمل أن يكون بمعنى الإبصار، وبمعنى العلم، انتهى.

وهو الأظهر؛ فتأمل.

و (كنت) : يحتمل أن تكون تامة أو ناقصة، و (بمكة) : ظرف لغو أو مستقر، و (إذا) في الموضعين: تحتمل أن تكونا ظرفيتين، وأن تكون الأولى شرطية، والثانية ظرفية، وبالعكس، و (أهلَّ الناس) : إما حال أو جزاء (إذا) الأولى، و (إذا) الثانية مفسر له على مذهب الكوفيين، أو مفسر للجزاء الثاني على مذهب البصريين، كذا في «عمدة القاري» بزيادة: (حتى كان) : يحتمل أنَّها تامة أو ناقصة، فإن كانت تامة؛ يكون (يومُ) مرفوعًا؛ لأنَّه اسم (كان)، وإن كانت ناقصة؛ يكون (يوم) خبر (كان) (التروية) : وهو يوم الثامن من ذي الحجة، واختلف في سبب تسميته بذلك، إمَّا لأنَّ جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم عليه السلام أول المناسك، أو لأنَّ الناس يروون من الماء من زمزم؛ لأنَّه لم يكن بمنى ماء، ولا بعرفة ماء، أو لأنَّه اليوم الذي رأى فيه آدم حواء عليهما السلام، وعن ابن عباس: (لأن إبراهيم أتاه الوحي في منامه أن يذبح ابنه، فتروى في نفسه، من الله تعالى هذا أم من الشيطان؟ فأصبح صائمًا، فلما كان ليلة عرفة؛ أتاه الوحي فعرف أنَّه الحق من ربه، فسميت عرفة)، رواه البيهقي، وروى أبو الطفيل عن ابن عباس: أنَّ إبراهيم عليه السلام لما ابتلي بذبح ابنه؛ أتاه جبريل عليه السلام فأراه مناسك الحج، ثم ذهب به إلى عرفة، قال: وقال ابن عباس: سميت عرفة؛ لأنَّ جبريل قال لإبراهيم عليهما السلام: هل عرفت؟ قال: نعم، فمن ثم سميت عرفة، كذا في «عمدة القاري».

(قال عبد الله)؛ أي: ابن عمر رضي الله عنهما مجيبًا لابن جريج: (أمَّا) : للتفصيل (الأركان)؛ أي: الأربعة؛ (فإنِّي لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس)؛ من مِست أمَس؛ بكسر الماضي، وفتح المستقبل، مسًّا ومسيسًا، وهو ما اختاره ثعلب وغيره، وحكى غيره: مِسسته؛ بالكسر، ومَسست؛ بالفتح، وبالكسر أفصح، وعن ابن جني: أمسه إياه، فعدَّاه إلى مفعولين، وعن ابن درستويه: إنَّ مَسست بالفتح خطأ مما يلحن فيه العامة؛ فتأمل.

(إلَّا) الركنين (اليمانيين) : واتفق الفقهاء على أن الركنين الشاميين -وهما مقابلا اليمانيين- لا يستلمان، وإنما كان الخلاف فيه في العصر الأول بين بعض الصحابة، وبعض التابعين، ثم ذهب الخلاف، وتخصيص الركنين اليمانيين بالاستلام؛ لأنَّهما كانا على قواعد إبراهيم عليه السلام بخلاف الركنين الآخرين؛ لأنَّهما ليسا على قواعد إبراهيم عليه السلام، ولمَّا ردهما عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ استلمهما أيضًا، ولو بني كذلك؛ لاستلمت كلها ابتداء، به صرح القاضي عياض، وركن الحجر الأسود خُصَّ بشيئين: الاستلام والتقبيل، والركن الآخر خُصَّ بالاستلام فقط، والآخران لا يقبَّلان ولا يستلمان، وكان بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يمسحهما على وجه الاستحباب، وقال ابن عبد البر: روي عن جابر، وأنس، وابن الزبير، والحسن، والحسين رضي الله عنهم: أنَّهم كانوا يستلمون الأركان كلها، وعن عروة مثله، واختلف عن معاوية وابن عباس في ذلك؛ فقال أحدهما: ليس بشيء من البيت مهجورًا، والصحيح عن ابن عباس أنَّه كان يقول: إلَّا الركن الأسود واليماني، وهما المعروفان باليمانيين، ولمَّا رأى عبيد بن جريج جماعة يفعلون على خلاف ابن عمر؛ سأله عن ذلك؛ فليحفظ.

(وأما النِّعال)؛ بكسر النُّون (السِّبْتية؛ فإنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلبَس)؛ بفتح التحتية والموحدة (٢) (النِّعال) : وفي رواية: (النَّعل)؛ بالإفراد، وزيادة: (السِّبْتية) (التي ليس فيها) : التأنيث على رواية (النعال) -بالجمع- واضح، وكذا على رواية الإفراد؛ لأنَّ النعل مؤنثة (شعَر)؛ بفتح العين المهملة على الأفصح، قال أبو عمر: لا أعلم خلافًا في جواز لبس النعال في غير المقابر؛ لقوله عليه السلام لذلك الماشي في المقابر: «ألق سبتك»، وقال قوم: يجوز ذلك ولو كان في المقابر؛ لقوله عليه السلام: «إذا وقع الميت في قبره؛ إنَّه ليسمع قرع نعالهم»، وقال الحكيم الترمذي: (إنَّه عليه السلام إنَّما قال لذلك الرجل: «ألق سبتك»؛ لأنَّ الميت كان يُسأل، فلما صرَّ نعل ذلك الرجل؛ شغله عن جواب الملكين، فكاد يهلك لولا أن ثبته الله تعالى) انتهى.

(ويتوضأ فيها)؛ أي: في النِّعال (فأنا) وفي رواية: (فإنِّي) (أحب أن ألبسها)، ففيه تصريح بأنَّه عليه السلام كان يغسل رجليه وهما في نعليه، وهذا موضع المطابقة للترجمة؛ لأنَّ قوله: (فيها)؛ أي: في النعال ظرف لقوله: (يتوضأ)، قال ابن حجر: وبهذا يرد على من زعم ليس في الحديث الذي ذكره تصريح بذلك، وإنما هو من قوله: (يتوضأ فيها)؛ لأنَّ الأصل في الوضوء الغسل.

قال في «عمدة القاري» : قلت: ما يريد هذا من التصريح أقوى من هذا، وقوله: (ولأنَّه فيها) يدل على الغسل، ولو أريد المسح؛ لقال: عليها، وهذا التعليل يرد عليه.

وقوله: (وليس في الحديث...) إلخ: وهذا من العجائب؛ حيث ادعى عدم التصريح، ثم أقام دليلًا على التصريح بذلك، وقد أشار المؤلف في الترجمة بقوله: (ولا يمسح على النعلين) إلى نفي ما ورد عن عليٍّ وغيره من الصحابة رضي الله عنهم: أنَّهم كانوا يمسحون على نعالهم، ثم يصلون، وروي ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة في الوضوء، لكن ضعَّفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره، وروي عن ابن عمر: (أنَّه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه؛ مسح ظهور نعليه بيديه، ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هكذا)، أخرجه الحافظ الطحاوي والبزار، وروي في حديث رواه علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمِّه رفاعة بن رافع: أنَّه كان جالسًا عند النبي الأعظم عليه السلام، وفيه: (ومسح برأسه ورجليه)، أخرجه الحافظ الطحاوي والطبراني في «الكبير»، والجواب عن حديث ابن عمر: أنَّه كان في وضوء متطوع به لا في وضوء واجب عليه، وعن حديث رفاعة: أنَّ المراد به أنَّه مسح برأسه وخفيه على رجليه، وأجاب بعضهم بأنَّهم مسحوا عليها مع غسل أرجلهم فيها.

قلت: وهو بعيد؛ إذ ما فائدة مسحهم عليها مع غسل أرجلهم، والمناسب أن يقال في الجواب: بأنَّهم


(١) في الأصل: (الخامس)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (والنون)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>