للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال إمام الشَّارحين: وذكروا أيضًا أنَّ علة النهي فيه من ثلاثة أوجه:

أحدها: عن شريك بن عبد الله أنه كان يقول: (نهي عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لأنَّ أصحابها من عادتهم التغوط بقرب إبلهم، والبول أيضًا، فينجسون بذلك أعطان الإبل، فنهي عن الصلاة فيها؛ للنجاسة لا لعلة الإبل، وإنما هو لعلة النجاسة التي تمنع من الصلاة في أي موضع ما كانت، بخلاف مرابض الغنم، فإن أصحابها عادتهم تنظيف مواضعها وترك البول (١) فيها، فأبيحت الصلاة في مرابضها لذلك)، وهذا بعيد جدًّا مخالف لظاهر الأحاديث.

الوجه الثاني: أنَّ علة النهي هي كون أبوالها وأرواثها في معاطنها، وهذا أيضًا بعيد؛ لأنَّ مرابض الغنم تشركها في ذلك.

الوجه الثالث: ذكره يحيى بن آدم: (أنَّ العلة في اجتناب الصلاة في معاطن الإبل؛ الخوف من نفورها وشرودها بخلاف الغنم؛ لأنَّه لا يخاف منها ما يخاف من الإبل) انتهى.

قلت: وهذه الأوجه بعيدة عن النظر كما قال؛ لأنَّ في الوجه الأول يلزم عليه أنَّ كل موضع نجس لا يصلى فيه، وعليه لا يكون فائدة لتخصيص أحاديث (٢) الإبل بهذا الحكم، وكلامه عليه السَّلام مُصَان عن عدم الفائدة، ولهذا قال: (وهذا بعيد جدًّا مخالف لظاهر الأحاديث).

وأنَّ الوجه الثاني يلزم عليه؛ أنَّ كل موضع فيه روث أو بول لا يُصلَّى فيه، وقد صرح في الحديث أنَّه يصلَّى في مرابض الغنم، وكذلك البقر مع أنَّه لا تخلو مواضعها عن بول وروث.

ولأن الوجه الثالث يلزم عليه مخالفة الحديث، فإنَّه قد علَّله؛ بأنَّها خلقت من الشياطين، فمكانها كمكان الخلاء وغيره، ولهذا قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (إن كانت العلة هي ما قال شريك؛ فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول، سواء كان عطنًا أو غيره، وإن كانت ما قاله يحيى؛ فإن الصلاة مكروهة حيث يخاف على النفوس سواء كان عطنًا أو غيره) انتهى.

قلت: وكذلك يلزم على الوجه الثاني حيث يكون الروث والبول؛ فالصلاة مكروهة كما ذكرنا، وهذا اعتراض على ما ذكر من علة النهي المذكورة.

واعترضه ابن حجر فقال: (إنَّ النظر يقتضي عدم الفرق بين الإبل والغنم في الصلاة وغيرها)، كما هو مذهب أصحابه.

وتعقب بأنَّه مخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة، فهو قياس فاسد الاعتبار.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا الكلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ الطحاوي قطٌّ ما قال: «إن النظر يقتضي عدم التفرقة»، وإنما قال: «حكم هذا الباب من طريق النظر أنَّا رأيناهم لا يختلفون في مرابض الغنم: أنَّ الصلاة فيها جائزة، وإنَّما اختلفوا في أعطان الإبل، فقد رأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم في طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها، فكان يجيء في النظر أيضًا أن يكون حكم الصلاة في مواضع الإبل؛ كهو في مواضع الغنم قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا»، فمن تأمل ما قاله؛ علم أنَّ القياس الذي ذكره ليس من جهة عدم التفرقة، وليس هو بمخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة، وإنما ذهب؛ لعدم التفرقة من حيث معارضة حديث صحيح لتلك الأحاديث المذكورة، وهو قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فمفهومه يدل: على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب الإمام الأعظم أبو حنيفة، ومالك بن أنس، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وآخرون، وكرهها الحسن البصري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وعن أحمد في الرواية المشهورة عنه: أنه إذا صلى في أعطان الإبل؛ فصلاته فاسدة، وهو مذهب أهل الظاهر) انتهى.

وزعم العجلوني أنَّ ظاهر كلامه أنَّ المرجَّح عند أحمد أنَّ الصلاة صحيحة في أعطان الإبل مع الكراهة، مع أنَّه قال في «المنتهى» : (ولا يصح تعبدًا صلاةٌ في أعطان إبل؛ وهي: ما تقيم فيها وتأوي إليها، ولا فرق في المعاطن بين أن تكون فيها إبل عند الصلاة أو لا) انتهى.

ولم أر في مذهبهم القول بأنَّها مكروهة فقط مع صحة الصلاة فضلًا عن أنه مذهب أحمد، انتهى.

قلت: وما زعمه مردود عليه؛ لأنَّ إمام الشَّارحين قد بيَّن أنَّ في رواية عن أحمد: أنَّ الصلاة في معاطن الإبل صحيحة مع الكراهة، وأن في الرواية المشهورة عن أحمد أنَّ الصلاة في معاطنها فاسدة، فهو لم يقل في الرواية الأولى: (مذهب أحمد)، وإنما قال: (وبما ذهب إليه الجمهور موافق لرواية عن أحمد)، وتصريحه بأنَّ الرواية المشهورة عن أحمد بالفساد دليل: على أنه مذهب أحمد.

وقوله: (ولم أر في مذهبهم...) إلى آخره: كلام بارد من ذهن شارد، فإنَّه لم يُحط بمذهبهم، ولا بأقوال الإمام أحمد، ومن حفظ حُجة على من لم يحفظ، فإنَّ المجتهدين قد يجتهدون (٣) في حكم بالصحة، ثم يزول، ويجتهدون فيه بالصحة، وعدم رؤيته لا يمنع رؤية غيره؛ بل العجلوني لم يُحط بمذهب إمامه فضلًا عن غير مذهبه، وإمام الشَّارحين مشهور بالاطلاع (٤) على مذاهب المخالفين، وأقوالهم أكثر من غيره من الشراح، على أنَّ المُثبت مُقدَّم على النافي؛ فافهم.

وفي «شرح الترمذي» : (وحَمَل الشافعي وغيره النهي عن الصلاة في معاطن الإبل على الكراهة إذا كان بينه وبين النجاسة التي في أعطانها حائل، فإن لم يكن بينهما حائل؛ لا تصح صلاته)

وردَّه إمام الشارحين فقال: (إذا لم يكن بين المصلي وبين النجاسة حائل؛ لا تجوز صلاته في أي مكان كان) انتهى.

قلت: يعني فلم يحصل تخصيص في الحكم، مع أنَّ الأحاديث طافحة في بيان الصلاة في مواطن الإبل، فيلزم على ما قاله عدم فائدة


(١) زيد في الأصل: (والبول)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (للتخصيص الأحاديث)، والمثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (يجتهدوا)، وليس بصحيح، وكذا في الموضع اللاحق.
(٤) في الأصل: (بالاضطلاع)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>