للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

عنه، والأولى هي المشهورة وعليها الاعتماد، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وقال: الدَّوِيُّ: بُعْدُ الصوت في الهواء وعلوه، ومعناه: صوت شديد لا يفهم منه شيء كدَوِيِّ النحل، انتهى.

(حتى دنا) أي: إلى أن قرُب فهمناه؛ (فإذا) للمفاجأة (هو) مبتدأ (يسأل عن الإسلام) خبره؛ أي: عن أركانه وشرائعه بعد التوحيد والتصديق، أو عن حقيقته؛ واستبعده في «عمدة القاري»؛ من حيث إنَّ الجواب يكون غير مطابق للسؤال وهو قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : هو (خمسُ صلوات في اليوم والليلة)، أو خذْ خمسَ صلوات، ويجوز الجرُّ بدلًا من (الإسلام)، وفيه حذف أيضًا؛ تقديره: إقامة خمس صلوات؛ لأنَّ عين الصلوات الخمس ليست عين الإسلام، بل إقامتها من شرائع الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة؛ لأنَّه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنَّما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها فلم ينقلها الراوي؛ لشهرتها، وذكر هذا الأخير الكرماني، ومشى عليه القسطلاني، واستبعده الشيخ الإمام بدر الدين العيني؛ لأنَّه يلزم نسبة الراوي الصحابي إلى التقصير في إبلاغ كلام الرسول وقد نَدب النبيُّ الأعظم عليه السلام إلى ضبط كلامه، وحفظه، وإبلاغه مثل ما سمعه منه في حديثه المشهور، قلت: وهو وجيه؛ فليحفظ.

(فقال) الرجل المذكور، وفي رواية: (قال) : (هل عليَّ غيرُها؟) بالرفع مبتدأ مؤخر، خبره (عليَّ)، (قال) عليه السلام: (لا) شيء عليك غيرها.

وفيه دليل على أن الوتر سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد الشيباني، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل: إن الوتر واجب؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} [البقرة: ٢٣٨]، و {الوُسْطَى} هي: الوتر، ولقوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم وترًا» رواه الشيخان، ولقوله عليه السلام: «إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر»، وعن عبد الله بنبريدة عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوتر حق، فمن لم يوتر؛ فليس مني»، قاله ثلاثًا، وقال عليه السلام: «من نام عن وتر أو نسيه؛ فليقضه (١) إذا ذكره» رواها أبو داود وغيره، والحاكم وصححها، والأمرُ وكلمةُ (عَلَى) و (حق) للوجوب، ووجوب القضاء فرعُ وجوب الأداء.

وفي الحديث أيضًا دلالة على أن صلاة العيدين سنة؛ وهو قول الإمام أبي يوسف، والإمام محمد، والإمام الشافعي، وقال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم: إنَّها واجبة؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: ٢]، والمراد بها: صلاة العيد، كما قاله المفسرون، ولقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: ١٨٥]، وقد واظب عليها النبي الأعظم عليه السلام من غير ترك؛ وهذا دليل الوجوب، بل والفرضية، ولهذا قال الإمام أبو موسى الضرير: إنَّها فرض كفاية، وهو قول الإصطخري من الشافعية، وقول حماد بن زيد من أصحاب إمامنا الأعظم أيضًا.

والجواب عن الحديث: أنه إنَّما لم يذكر الوتر للأعرابي؛ لأنَّه لم يكن واجبًا يومئذٍ بدليل أنه لم يذكر الحج؛ لأنَّه لم يُفرض، فالوتر مثلُه، فلا حجة في الحديث، وإنما لم يذكر له صلاة العيدين؛ لأنَّه كان من أهل البادية، وهي لا تجب عليهم ولا على أهل القرى، فلا حجة فيه أيضًا.

(إلا أن تطوع) استثناء متصل، وهو الأصل في الاستثناء، فيُستَدل به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل؛ وجب عليه إتمامه، وبقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}، وإبطال العمل: نقض العهد، وبالاتفاق على أن حج التطوع يلزم بالشروع فيه صحيحًا كان الحج أم فاسدًا، فلا يمتاز عن غيره.

والمعنى: أي: إلَّا أن تَشرع في التطوع؛ فيصير واجبًا كما يصير واجبًا بالنذر، فإذا أفسده؛ وجب عليه قضاؤه، وقد روى أحمد في «مسنده» عن عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأُهديت لنا شاة؛ فأكلنا، فدخل علينا النبي عليه السلام، فأخبرناه، فقال: «صوما يومًا مكانه»، وفي لفظ آخر: «أبدلا يومًا مكانه»، وروى الدارقطني عن أم سلمة: أنها صامت يومًا تطوعًا، فأفطرت، فأمرها النبي عليه السلام أن تقضيَ يومًا مكانه، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، ولولا الإطالة لأوردناها، وبالجملة: فالأمر بالقضاء أمرٌ للوجوب، فدل على أن الشروع ملزِم، وأن القضاء بالإفساد واجب، وهذا مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه.

وقال الشافعي: لا تلزم النوافل بالشروع فيها، بل يستحب إتمامها؛ لما روى النسائي: أن النبي الأعظم عليه السلام كان أحيانًا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي «البخاري» : أنه أمر جويرية (٢) بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل بظاهره على أن الشروع في النفل لا يستلزم الإتمام، فهذا النص في الصوم، والباقي بالقياس.

قلنا معشر الحنفية: لا دلالة له على ما ذكر؛ فإن حديث النسائي لا يدل على أنه عليه السلام ترك القضاء بعد الإفطار، وإفطاره كان عن عذر، وحديث جويرية إنَّما أمرها بالفطر؛ لما تحقق عنده من العذر الموجب للإفطار؛ كضعف بنيتها أو لأجل الضيافة أو غير ذلك، وأنه أمرها بالقضاء، والأمر بالقضاء مستفاد من غير هذا الحديث كالذي شاهده لنا من حمل المطلق على المقيد، وإذا وقع تعارض بين الأخبار؛ فالترجيح معنا لثلاثة أوجه؛ أحدها: إجماع الصحابة، والثاني: أن أحاديثنا مثبتة وأحاديثه نافية، والقاعدة: أن المُثبِت مقدَّم على النافي، والثالث: أنه الاحتياط في العبادة لله تعالى؛ حيث قال: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: ٣٣]، فإن إبطال العمل نقض العهد واستهزاء وسخرية، ألا ترى أن المخلوق لو أمرك بأمر وشرعت فيه ولم تتمه؛ هل يرضى منك أم يسخط؟ فإذا تممته ثم أفسدته وضيعت ماله؛ هل يفرح أم يغضب؟ هذا في المخلوق، فما بالك في الخالق جل وعلا سبحانه.

واعلم أن الواجب عندنا دون الفرض وأعلى من السنة، والفرق بينها ظاهر في كتب الفروع، وعند الشافعي: الفرض والواجب سيان إلا في الحج؛ فوافقنا فجعل فيه فرضًا وواجبًا وسنة؛ فافهم.

(قال) وفي رواية: (فقال) (رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان) كلام إضافي مرفوع عطفًا على قوله: (خمس صلوات)، وفي رواية: (وصوم)، (قال) الرجل: (هل عليَّ غيره؟ قال) عليه السلام: (لا)؛ أي: ليس عليك غيره (إلا أن تطوع)؛ أي: إلا إذا تطوعت؛ فيلزمك إتمامه، وإذا أفسدته؛ يلزمك قضاؤه، وما قيل: إن في استدلالنا نظر؛ لأنَّا لا نقول بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع؛ لتباينهما، وأن الاستثناء عندنا من النفي ليس للإثبات، بل مسكوت عنه؛ ممنوع؛ لما علمت من ثبوت النص في الصوم أنه يجب قضاؤه بالإفساد، وإتمامه بالشروع، والباقي بالقياس عليه، على أن الاستثناء هنا متصل لا منقطع، فإنَّ الواجب عندنا فرض أيضًا، لكن يفرق بينهما من حيث الاعتقاد والتكفير، فإنَّ الوتر واجب وهو فرض عملي لا اعتقادي ولا يكفر جاحده، وإنَّ الصبح فرض علمي اعتقادي يكفر جاحده، فصار بينهما موافقة لا مباينة، فكان الاستثناء متصلًا، كما لا يخفى.

وأما قوله: فالاستثناء من النفي مسكوت عنه؛ فمعناه هنا: أنَّه لما ذكر النبيُّ للرجل الصلاة والصوم، وكان لم يصل ولم يصم، وفي عقله أنهما ثابتان، فما سيق له لنفي ما عداهما؛ فيلزمه الصلاة والصوم، وهذا بطريق الإشارة، أو أنهما يثبتان بطريق الضرورة؛ لأنَّ وجودهما لما كانا ثابتين في عقله يلزم من نفيهما ثبوتهما ضرورة، والتقدير: لا صلاة ولا صوم غير الخمس ورمضان ثابت، فيكون كالتخصيص بالوصف، وليس له دلالة على نفي الحكم عما عداه عندنا، فلا دلالة للكلام على ثبوتهما منطوقًا ولا مفهومًا، بل بالإشارة أو بالضرورة لا بالعبارة عندنا، وتمامه في كتب الأصول؛ فليحفظ.

(قال) الراوي طلحة بن عبيد الله: (وذكر له)؛ أي: للرجل (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزكاة)، وإنما قال ذلك الراوي؛ لأنَّه إمَّا نسي نص النبي عليه السلام أو التبس عليه، وفي رواية: (الصدقة)، والمراد بها: الزكاة، (قال) وفي رواية: (فقال)؛ أي: الرجل المذكور: (هل عليَّ غيرها؟) خبر ومبتدأ (قال) عليه السلام: (لا) ليس عليك غيرها (إلا أن تطوع)، ولم يذكر الحج، وقدمنا في الجواب: أنه لم يكن فُرِض، أو أنه علم حاله أنه لم يجب عليه الحج؛ لعدم استطاعته، (قال) الراوي: (فأدبر الرجل) الأعرابي، من الإدبار؛ أي: تولى (وهو يقول)؛ أي: والحال أنه يقول: (والله لا أزيد) في التصديق والقبول (على هذا) المذكور (ولا أنقص) منه


(١) في الأصل: (فليقضيه)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (جويرة)، وكذا في الموضع اللاحق.

<<  <   >  >>