للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

العفريت على قصة ثمامة، لأنَّ الذي همَّ بربط العفريت هو النَّبي عليه السَّلام، والذي ربط ثمامة غيره، ولمَّا رآه مربوطًا قال: «أطلقوا ثمامة»، فهو بأن يكون إنكار الربط أولى من [أن] يكون تقريرًا) انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا قول صادر من غير تأمل؛ لأنَّ ابن إسحاق صرح في «المغازي» أنَّ النَّبي عليه السَّلام هو الذي أمرهم بربط ثمامة، فإذا كان كذلك؛ كان حديث ثمامة من جنس حديث العفريت، ولكن لما كان بينهما مغايرة ما؛ فصل بينهما بلفظ «باب») انتهى.

وتبعه ابن حجر حيث قال: (وكأنَّ ابن المُنَيِّر لم ينظر سياق هذا الحديث تامًّا لا في «البخاري» ولا في غيره، فقد أخرجه البخاري في «المغازي» من هذا الوجه مطولًا، وفيه أنَّه عليه السَّلام مرَّ على ثمامة ثلاث مرات، وهو مربوط في المسجد، وإنَّما أمر بإطلاقه في اليوم الثالث، وكذا أخرجه مسلم وغيره، وإني لأتعجب منه كيف جوز أنَّ الصَّحابة يفعلون في المسجد أمرًا لا يرضى به النَّبي عليه السَّلام؟! فهو كلام فاسد مبني على فاسد) انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ التَّرجمة وقعت لابن المُنَيِّر كما ذكر، فاحتاج إلى توجيهها، ولم ينظر لما وقع في غيرها، فإن نظر إليه؛ اتجه اعتراض ابن حجر عليه بما ذكره وإن كان فيه تكلف، انتهى.

قلت: وقوع التَّرجمة هكذا غير عذر؛ لأنَّه كان يمكنه تصحيحها بالمقابلة على نسخة صحيحة، على أنَّ توجيهها بما ذكر غير صواب؛ لأنَّه مخالف لصريح الأحاديث مع الجرأة على الصَّحابة الكرام، ولا مانع من نظره لما وقع في غيرها وعدم فهم معناها؛ لأنَّ الذي يقول هذا الكلام لا يفهم المعنى المرام، فصح قول ابن حجر: (فهو كلام فاسد مبني على فاسد)، وصح قول إمام الشَّارحين: (هذا قول صادر من غير تأمل)؛ فافهم.

وقال إمام الشَّارحين: (وأبعد من الكل النُّسخة التي ذكرها ابن المُنَيِّر وهي: «باب ذكر الشراء والبيع» فيه: «أبو هريرة بعث رسول الله عليه السَّلام خيلًا...»؛ الحديث، ثم قال: وجه مطابقة حديث ثمامة للبيع والشراء في المسجد أنَّ الذي تخيل المنع مطلقًا إنَّما أخذه من ظاهر أنَّ هذه المساجدإنَّما بنيت للصلاة ولذكر الله، فبيَّن البخاري تخصيص هذا العموم بإجازة فعل غير الصلاة في المسجد، وهو ربط ثمامة؛ لأنَّه مقصود صحيح، فالبيع كذلك، انتهى، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقال صاحب «التلويح» بعد أن نقل هذا الكلام منكرًا عليه ومستبعدًا وقوعه منه:

وذاك لعمري قول من لم يمارس... كتاب «الصَّحيح» المنتقى في المدارس

ولم ير ما قد قاله في الوفود من... سياق حديث واضح متجانس

وكان الشيخ قطب الدين الحلبي تبع ابن المُنَيِّر في ذلك، وأنكر عليه تلميذه صاحب «التوضيح»، وهو محل الإنكار؛ لأنَّ التَّرجمة التي ذكرها ليست في شيء من نسخ «البخاري») انتهى كلام إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.

وقال ابن حجر: (يحتمل أن يكون البخاري بيَّض للتَّرجمة فسدَّ بعضهم البياض بما ظهر له، ويدل عليه أنَّ الإسماعيلي ترجم عليه بـ «باب دخول المشرك المسجد»، وأيضًا فالبخاري لم تجرِ عادته بإعادة لفظ ترجمة عقب الأخرى، و «الاغتسال إذا أسلم» لا تعلق له بأحكام المساجد إلا على بُعْد بأن يقال: الكافر جنب غالبًا، والجُنب ممنوع من المسجد إلا لضرورة، فلما أسلم؛ لم تبق ضرورة للبثه في المسجد جنبًا فاغتسل؛ لتُسوَّغ له الإقامة في المسجد) انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ احتمال كون البخاري بيَّض للتَّرجمة ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك لم يذكر تعليقًا وحديثًا، وهذا أبعد البعيد أن يذكر التَّعليق والحديث، ويبيض للتَّرجمة، واحتمال أن بعضهم سد هذا البياض أبعد منه؛ لأنَّ رواة «البخاري» كلهم عدول، ولم يحصل من العدل جرأة على مثل «البخاري»، فهذا يعد نقصًا في رواة «البخاري»، وهو غير صحيح، وكون الإسماعيلي ترجم له بما ذكر؛ لعلَّ هذه التَّرجمة مثل ترجمة ابن المُنَيِّر لم توجد في نسخ البخاري، وكون البخاري لم تجر عادته بإعادة ترجمة عقب أخرى؛ ممنوع؛ لأنَّ عادته إعادة الأحاديث مرات في أبواب متعددة وهذا مثله، والعادة تثبت بمرة، وكون الاغتسال لا تعلق له بأحكام المساجد؛ ممنوع؛ لأنَّ تعلقه ظاهر، فإنَّ الكافر جنب في الغالب، وهو ممنوع من دخول المسجد، فلمَّا أسلم؛ احتاج إلى الصلاة في المسجد، فيغتسل ثم يدخل، فهو حكم من أحكام المساجد، والله أعلم.

(وكان شُرَيْح)؛ بِضَمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، هو ابن الحارث الكندي، كان من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، وكان في زمن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه، قضى بالكوفة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعده ستين سنة، مات سنة ثمانين، كذا قاله إمام الشَّارحين، وفي «التقريب» : (شريح بن الحارث بن قيس الكوفي النخعي القاضي أبو أمية، مخضرم ثقة، وقيل: له صحبة، مات قبل الثمانين أو بعدها، وله مئة وثمان سنين أو أكثر، يقال: حكم سبعين سنة) انتهى، (يأمر الغريم)؛ أي: الذي عليه الدين، وقد يكون الغريم الذي له الدين، والمراد هنا الأول؛ فافهم، (أن يُحبَس)؛ بِضَمِّ أوله مبني للمجهول؛ أي: يأمره بأن يحبس نفسه في المسجد (إلى) أي: مع (سارية) أي: أسطوانة (المسجد)؛ أي: مسجد الكوفة، فاللَّام فيه للعهد، ويحتمل أنَّه ضَمَّن (يحبس) معنى (يضم) فعدي بـ (إلى)، قيل: وفي نسخة (أن يَحبِس) بالبناء للفاعل، قال ابن مالك: (وفي إعراب هذا وجهان؛ أحدهما: أن يكون الأصل «بالغريم»، و «أن يحبس» بدل اشتمال، ثم حذفت الباء كما في قول الشاعر:

أمرتك الخير

والثاني: أن يريد: كان يأمره أن ينحبس، فجعل المطاوَع موضع المطاوِع لاسلتزامه إياه) انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا تكلف، وحذف الباء في الشعر للضرورة، ولا ضرورة ههنا، وهذا التركيب ظاهر، فلا يحتاج إلى مثل هذا الإعراب، ولا شك أنَّ المأمور هو الغريم، أمر بأن يحبس نفسه

<<  <   >  >>