للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

يمسونه، فإن ذكروا حديث ابن عمر: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ؛ مخافة أن يناله أهل الحرب)؟

قلنا: هذا حق يلزم اتباعه، وليس فيه: لا يمس المصحف جنب ولا كافر، وإنما فيه ألا ينال أهل الحرب القرآن فقط.

وإن قالوا: إنَّما بعث إلى هرقل بآية واحدة؟

قيل لهم: ولم يمنع من غيرها وأنتم أهل قياس؛ فإن لم تقَيْسوا على الآية ما هو أكثر منها؛ فلا تقَيْسوا على هذه الآية غيرها.

فإن ذكروا قوله جل وعلا: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: ٧٩].

قلنا: لا حجة فيه؛ لأنَّه ليس أمرًا، وإنما هو خبر، والرب سبحانه لا يقول إلا حقًّا، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن؛ فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر؛ علمنا أنه لم يعن المصحف وإنما عنى كتابًا آخر عنده، كما جاء عن ابن جبير في هذه الآية: هم الملائكة الذي في السماء، وكان علقمة إذا أراد أن يتخذ مصحفًا؛ أمر نصرانيًّا بنسخه له) انتهى.

ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: والجواب عما قاله فقوله: (فإن الآثار التي احتج بها... إلى آخره) ليس كذلك، فإن أكثر الآثار في ذلك صحاح:

منها: ما رواه الدارقطني في «سننه» بسند صحيح متصل عن أنس: (خرج عمر بن الخطاب متقلدًا سيفًا؛ فدخل على أخته وزوجها حباب وهم يقرؤون سورة طه، فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقالت له أخته: إنك رجس و {لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: ٧٩]، فقم فاغتسل، أو توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ الكتاب).

ومنها: ما رواه الدارقطني أيضًا بسند صحيح من حديث سالم يحدث عن أبيه قال: (قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يمس القرآن إلا طاهر»)، قال الجوزقاني: (هذا حديث مشهور حسن).

ومنها: ما رواه الدارقطني أيضًا من حديث الزُّهري عن أبي بكر محمَّد بن حزم، عن أبيه، عن جده: (أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتب إلى أهل اليمن كتابًا فيه: «لا يمس القرآن إلا طاهر»)، ورواه في «الغرائب» من حديث إسحاق الطباع، عن مالك مسندًا، ومن الطريق الأولى أخرجه الطبراني في «الكبير»، وابن عبد البر، والبيهقي في «الشعب».

وقد وردت أحاديث كثيرة تمنع قراءة القرآن للجنب والحائض:

منها: حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب)، قال أبو عمر: (رويناه من وجوه صحاح).

ومنها: حديث عمر بن مرة، عن عبد الله بن سَلَمَة، عن علي رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلَّا الجنابة»، صححه جماعة منهم: ابن خزيمة، وابن حبان، وأبو علي الطوسي، والترمذي، والحاكم، والبغوي، وأخرجه ابن الجارود في «المنتقى»، زاد ابن حبان: (قد يتوهم غير المتبحر في الحديث أن حديث عائشة رضي الله عنها: «كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه» يعارض هذا وليس كذلك؛ لأنَّها أرادت الذكر الذي هو غير القرآن؛ لأنَّ القرآن يجوز أن يسمى ذكرًا، وكان لا يقرأ وهو جنب، ويقرؤه في سائر الأحوال).

ومنها: حديث جابر رضي الله عنه: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا تقرأ الحائض، ولا الجنب، ولا النفساء من القرآن شيئًا»، رواه الدارقطني، ثم البيهقي، وقال: (إسناده صحيح).

ومنها: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا علي؛ لا تقرأ القرآن وأنت جنب»، رواه الدارقطني، وعن الأسود أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند لا بأس به، وإبراهيم: (لا يقرأ الجنب)، وعن الشعبي، وأبي وائل مثله بزيادة: (والحائض).

والجواب عن الكتاب إلى هرقل فنحن نقول به: لمصلحة الإبلاغ والإنذار، وأنه لم يقصد به التلاوة، وأما الجواب عن الآية بـ أن المراد بالمطهرين: الملائكة، إن تخصيص الملائكة من بين سائر المطهرين على خلاف الأصل وكلهم مطهرون، والمس والاطلاع عليه إنَّما هو لبعضهم دون الجميع انتهى كلامه.

قلت: فالمراد بقوله: {إِلَاّ المُطَهَّرُونَ} من الآدميين، و {يَمَسُّهُ} مجزوم بـ (لا) الناهية، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح بذلك جماعة، وقالوا: إنَّه مذهب البصريين، بل قيل: إنَّ سيبويه لم يحفظ في نحوه إلَّا الضم، انتهى.

قلت: وظاهر الأحاديث التي سبق ذكرها يشمل الآية وما دونها؛ لأنَّها مطلقة والمطلق ينصرف إلى الجميع، وهو قول الإمام الكرخي، وصححه صاحب «الهداية»، ومشى عليه حافظ الدين في «المستصفى»، وقواه في «الكافي»، ونسبه صاحب «البدائع» إلى عامة أصحابنا، وصححه الإمام الجليل قاضيخان، وإليه أشار الإمام القدوري، وروى الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي: (أنه يباح للحائض، والنفساء، والجنب قراءة من دون الآية)، وصححه صاحب «الخلاصة»، ومشى عليه فخر الإسلام في «شرح الجامع الصغير»، ونسبه في «المجتبى» إلى الأكثر، ووجهه صاحب «المحيط» بـ (أن النظم والمعنى يقصر فيما دون الآية، ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم، فتمكنت فيه شبهة عدم القرآن، ولهذا لا تجوز الصَّلاة به).

قال صاحب «البحر» : (والذي ينبغي ترجيحه القول بالمنع فيما دون الآية؛ لأنَّ الأحاديث لم تفصل بين القليل والكثير، والتعليل في مقابلة النص مردود، ولأن «شيئًا» في الحديث نكرة في سياق النفي، فتعم، وما دون الآية قرآن؛ فيمتنع كالآية) انتهى.

ومحل الخلاف فيما إذا لم تكن الآية طويلة، فلو كانت طويلة؛ كان بعضها كآية؛ لأنَّها تعدل ثلاث آيات، كذا ذكره صاحب «الحلية» عن شرح «الجامع» لفخر الإسلام، وهذا كله إذا قرأ على قصد أنه قرآن، أما إذا قرأ على قصد الدعاء، أو الثناء، أو افتتاح أمر؛ فإنه لا يحرم، كما في «البحر» عن «الخلاصة»، وهذا إذا كان مشتملًا على الذكر، أما إذا كان مشتملًا على حكم أو خبر؛ فلا يجوز ولو قصد الذكر فيه كما في «الشرنبلالية»، و «الإمداد».

قال الإمام الفقيه أبو الليث في «العيون» : (قراءة الفاتحة على وجه الدعاء أشياء من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد القرآن؛ لا بأس به).

وفي «غاية البيان» : أنه المختار، واختاره شمس الأئمَّة الحلواني.

ويكره للجنب، والحائض، والنفساء قراءة التوراة، والإنجيل، والزبور هو الصحيح؛ لأنَّ الكل كلام الله تعالى، كذا في «الخلاصة»؛ لأنَّ ما تبدل منه بعض غير معين، وما لم يبدل غالب وهو واجب الصون والتعظيم، وإذا اجتمع المحرم والمبيح؛ غلب، وقال عليه السلام: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»، وبهذا ظهر فساد قول الشافعية: إنه يجوز الاستنجاء بما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فإنه مجازفة عظيمة على الله عز وجل؛ لأنَّه تعالى لم يخبرنا بأنهم بدلوها عن آخرها، وكونه منسوخًا لا يخرجه عن كونه كلام الله تعالى؛ كالآيات المنسوخة من القرآن، كما في «شرح المنية».

قلت: على أن (١) الأحرف وحدها قرآن أنزل على هود عليه السلام، فيجب


(١) في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>